الاثنين، 22 سبتمبر 2008

الشعر هو كتابة عن الشعر




ما الشعر اذا ؟
الانسان ميت
القصيدة وحدها تتعذب
.....
في هذا العالم

خزين الغائط
كل انسان رمز مقدس
إن كان تعريف الرمز هو الصليب
....
الأشياء الوحيدة التي إستطعت الاحتفاظ بها من مزبلة حياتي القديمة :

التدخين ، إطلاق الشتائم ، التفكير بالموت.
التدخين أثناء الخوف من الموت هو حركة كلاسيكية ،
مثل التدخين أثناء ممارسة الجنس
الحب يشبه التدخين : ثقب في الرئة.
....
ربما سمعت ً أنت ايضا عن الحياة التي لا يتقاسمها الجميع بالتساوي. ربما لا شعرَ في هذه الحقيقة. ربما أنت أيضا مصاص دماء متنكر في زي حمار. ربما بالغ َالشعر الحديث في كره المعنى. وربما الروح خدعة مسرحية ناجحة.
....
بين فخذيك سمكة حمراء

سمكة شفافة في احشائها خاتم المعنى
والآن ماالفن ؟
هو وجهك حين أمسُّ الخاتم
الشعر مثل هذه الايماءة
خوف ٌ من الزوال.
....
مع ذلك ، أتخيل حياتي ، صورة واحدة لاغير :

ـ عجوز طاعنة في السن تحدّق في ثقب مؤخرتي
عين الزمن في عين الغائط.
....
كتابة الشعر سهلة جدا للأسباب التالية :أن تولد في بيت لايعترف بالطفولة. أن يخيفك الموتى، وأن تبقى عاطلا عن العمل بسبب الغموض وشياطينه. الغموض الذي يلف حكاية حبة البطاطا الراقدة في التراب وحكاية النداءات المجهولة القادمة من المجرة. وأن يكون لديك واجب حيواني تجاه الحب وواجب إنساني تجاه الكراهية، وأن تغامر قليلا في حياتك. كأن تعبر النهر مشيا على الاقدام، أو أن تجلس في بئر سبعة أيام.

كتابة الشعر صعبة جدا : من المستحيل أن تمس جوهر الشعر من دون ان تهجر الكتابة الى الأبد.
....
كل ما يدخل القصيدة يخرج منها

صياح الاطفال ، الذئب ، حقول الحنطة ، الشعر الزائف والشعر الجميل ، الكابوس الذي يخنق بيديه النائمين ، الظلام الذي يأكل في المقبرة ، الحروب ، الشمس المكسورة بحجر طفل ، الطيور الميتة ، الغائط والحب، المرئي والغامض ، زجاجات البيرة الفارغة ، المجرة ، الريح ، وعيون المصابين بطلق ناري ...
كل شئ يدخل ويخرج من القصيدة
ولايتبقى سوى القصيدة
ممر أشباح الزمن




الأربعاء، 17 سبتمبر 2008

خنفساء الروث



ـ دكتور، هناك قصص للاطفال، وقصص قصيرة جدا للمرضى الذين لم يعد لديهم الكثير من الوقت. هناك قصص على شاطئ البحر، يعني قصص صيفية للاثداء التي تتشمس ، قصص كسولة عن غائط الواقع ، قصص للنخبة ، للاوقات المملة ، للامهات الحوامل ، للسجناء. انا لايمكنني أن أكتب قصة ، لكني مستعد للتدخل في قضية الأدب ، لغرض واحد فقط : من اجل كرامة من هم على حافة الجنون. أما أنا فلست إلا مسمارا في عين مصلوب ...

كان الطبيب يقود السيارة لزيارة والدته في مدينة صغيرة قريية من العاصمة. الطرق زلقة ، بعد أن ضربت الثلج شمس البارحة والتي ظهرت فجأة من خيمة العتمة في هلسنكي. في الصحف ظهرت صورة تلك السيارة محطمة بعد إصطدامها بمقدمة باص مدرسي إحترق فيه تسعة أطفال وجرح آخرون. قتل الطبيب أيضا. بدت جثته كأن منشارا كهربائيا شطرها الى نصفين. كان إنسانا طيبا إمتلك روح زاهد. وكان طبيبي النفسي منذ اكثر من عام ونصف. مؤخرته جميلة جدا. أنا أعرف بم ستفكرون ، ايتها الصفادع !
خنفساء الروث التي تعيش في الصحراء الأفريقية تعمل كريات صغيرة من الروث تضع فيها البيض وتدفنها في الأرض. تعتني به الى أن يفقس. يقرأ الرجل في موسوعة سميكة عن الحشرات وهو يتحسر على حال البشر. يحلم بأنه أصبح من أجنة الروث المدفونة في الارض وأنه الآن داخل بيضة. تخيل أن الألم هو خنفساء عملاقة طيبة صارت أمه.
هذا الصباح أستلمتُ مع اعلانات البيتزا والصحف المجانية ، من فتحة الباب ، رسالة من المستشفى. غرامة مالية قدرها 27 يورو بسبب عدم حضوري في الموعد المقرر مع الطبيب الجديد قبل أسبوعين. طيّب ، هل أستحق مثل هذه العقوبة ؟ بعدها قفز الى ذهني برغوث آخر: عشر سنوات من دون أن أرفع سماعة الهاتف للسؤال عن أمي وأخوتي الذين أعرف في أي جحيم يحيون. براغيث اخرى من كل صنف وشكل تحبس الهواء في دماغي.
أخذ الرجل يتأمل قلبه الغليظ من زوايا عدة ، ولم أخذ في سن مبكرة يغلفه بطبقة سميكة من الأسمنت والحديد. لم يعثر على الجواب ، بل محض أحاسيس غامضة لاتعينه في تفسير قسوة قلبه وهروبه المتواصل من الماضي. لكن ألم يرد أن يختار بنفسه حياته ويكون سيّدها. هاهو الآن يسكن في شقة جميلة في هلسنكي، وبعد عام تذهب الصغيرة مريم الى المدرسة ، ولدى زوجته مدخرات من عملها في مطعم البيتزا وتفكر الآن بفتح مطعم يقدم الأكلات العراقية. تفكيرها جاد هنا : نادلات مطعمها يلبسن زيا هجينا، عراقيا وأخر للراقصة الشرقية. ديكور المطعم ذو طابع تراثي. وإذا جاءت الموافقة فسيقف أو يبرك جمل حقيقي في إحدى زوايا المطعم. سترافق الطعام وصلات من الموسيقى الشرقية. أما الأرضية فستفرش بسجاد عليه صورة السندباد ، أما البخور في المطعم فسيخرج من مصباح قديم يذكر بمصباح علاء الدين. لقد فكرت بكل مايداعب مخيلة الفنلندي والزبون الغربي عامة عن بلاد ألف ليلة وليلة. مرة سأل روائي فنلندي شاب الرجلَ راسما على وجهه علامتي تعجب وأستفهام كبيرتين : كيف قرأت كافكا ؟ هل قرأته باللغة العربية ؟ كيف تعرفت على كافكا بهذه الطريقة ؟ شعرالرجل كأنه متهم ، والروائي الفنلندي محقق، وكافكا كنز من كنوز الغرب سطا عليه العراقي علي بابا. بمكنة الرجل أن يسأل بالطريقة نفسها أيضا : هل قرأت كافكا بالفنلندية ؟!

ـ دكتور ، راقبنا الكوكب ( دوعيس توملا) أربع سنوات ضوئية ، وتأكد لنا بأن لا أحد يعيش عليه سوى الستة الذين رصدتهم كاميرات المراقبة الفضائية. المثير للدهشة هو أن هؤلاء لم يبارحوا حدود قريتهم على ضفاف النهر الاحمر. وهذا عبارة عن نهر متجمد لكنا لا نزال نجهل طبيعة مادته. يبدو لنا كأنه نهر دم متجمد. ويبدو لنا من نتائج المراقبة أن أحد الكائنات الستة هو قائد المجموعة. بيته المنعزل عند جرف النهر، على هيئة كأس، بينما بقية البيوت عبارة عن غرف زجاجية على هيئة فقاعة ماء .البيوت متجاورة بخط منحني. طوال تلك الاعوام لم نرصد من طرق عيشهم سوى مايقومون به كل يوم بشكل روتيني صارم. يبقى الخمسة في بيوتهم طوال الوقت بينما يجلس السادس من دون حراك على حافة النهر الاحمر. بعدها يخرج الخمسة سوية ويتوجهون الى السادس. يحيطون به ، ثم يسلمونه شيئا ما غير مرئي. وحين يبتعدون عنه عائدين الى غرفهم ، يعود السادس الى غرفته أيضا. يمكث بعض الوقت هناك ثم يخرج ويرمي أشياء غير مرئية الى النهر ثم يعود الى مكان جلوسه. قررنا أخيرأ أن نقضي عليهم بأشعة الليزر و لانجازف بالاتصال بهم. أظن أن زمن المغامرات قد انقضى. ذلك الزمن الذي سبب إختفاء أرضنا القديمة. لكن المثير للضحك ، هو انه كان بيننا رائد فضاء عجوز غريب الاطوار لايزال يكتب الشعر. وهذا السلوك المتخلف كما تعرفون كان يمارسه أسلافنا الاوائل على الارض. كان يقول: هؤلاء الستة هم الله ! لكم أن تتصورا أنه بعد كل هذا التأريخ الطويل للوجود ووصول الإنسان الى خلود الانسان بعد انتصاره على الموت ، هناك من ظل مؤمنا بالله .ولابد من معاقبة رائد الفضاء واخضاعه لعلاج نفسي طويل. فهو مصاب بداء الايمان المنقرض في عصرنا هذا ، عصر الابحار الازلي ، عصر الخلود الثاني الخالي من أي هدف أو أتجاه .
لكن في ليلة هادئة وجميلة خرج رائد الفضاء من غرفته للسباحة. ارتدى بدلته وقفز الى الفضاء و أخذ يسبح ببطء ويتأمل النجوم البعيدة. وبعد ها بقليل ، لم يفعل رائد الفضاء اكثر من قلب حروف أسم الكوكب في ذهنه وقراءته من جديد : الموت سيعود ...
بعد هذا الاكتشاف اللغوي الصغير ، والذي اعتبره بعضهم محض شعوذة ، دب الذعر بين سكان المجرّة وعقدت مؤتمرات عديدة للبحث في الاخطار المحتملة ...

ـ دكتور، لهذا كان لابد من عودة كتابة الشعر. فقد حرّكت كلمة الموت مروحة الاحاسيس من جديد...

لا اريد النظر بصفاء وهدوء ، لقد تعبت ، اريد ان اصرخ. انا مثل أي واحد منكم ، حشد من القردة الفصامية تعيش في جسد واحد. انا سمكة تحترق في فرن، بينما المطر ينهمر في الخارج. صورة اخرى وتخرج السموم من فمي. أبتسمي ياأمي لكي ينضج التمر. حسنا ، ظننت ان العالم مجرد حلم مشفر وأني صياد رموز لكنه بحاجة الى شبكة صيد ومختبر. لقد خدعتني الكتب قبل ان تخدعني موسوعة الحشرات البشرية. وأخيرا تهاوى الحلم الذي دمرت من أجله حياتي. الآن صار لدي حطامان: حياتي والحلم. أنا أحبك ، يا أمي. وأصلي من اجل ان يتوقف الله عن تعذيبك بالحزن الشعبي الاسود، و أن يحكم البلاد ملاك ذو مؤخرة جميلة. كان الطبيب قبل أن يحرق باص الاطفال، يعالج كآبتي مرة ، وفي أخرى ذهني العدائي مثير المشاكل. أنا يا أمي لا أنام. هم يريدون تنويمي عنوة. وأنتم يا اخوتي، أعلن لكم بأني من صنف المرضى المذعورين، من صنف الفئران الكافكوية، سلالة مطاردة الى الابد. نأكل بسرعة وخوف، ننام بعيون نصف مغمضة، وأبطال كوابيسنا قطط شريرة ومصائد من أسلاك شائكة. لعلمكم ليس هذا المرض معديا بل وراثي. قبل ظهور كافكا كانوا يسمون أسلافنا بمواطن الشر. أرسلوهم الى المعابد لطرد الشياطين من روؤسهم.
زوجتي وأصدقائي ورئيس جمعية الدفاع عن المنحوسين. يصلون كلهم كي أنام و أقبل قسمتي في الحياة. هم محقون إذا شعروا بأنهم أصحاب أمتياز. فالنائمون هم ملوك يولدون في النهار معافين هادئين خارج المستشفى ولايعرفون صراخ الولادة. أنا أحسدهم على مثل هذه الطمأنينة وطيبة القلب. اما أنا فيمكن نعتي بعديم الثقة، على وزن عديم الأخلاق... فأنا عاجز عن أن أسلم روحي لطلوع النهار خلسة، ومن دون حراسة. أنا عديم الأيمان ايضا. وأنوي الإعلان عن معركة جديدة مع الصيدلية. لهذا لن ازور الطبيب بعد اليوم. المشكلة أنهم يمنعونك من شرب الكحول حين تتناول حبوبهم بنات الكيمياء ومبيدات الحشرات التي يقدومنها لك ومعها ابتسامة عريضة. الممرضة اعطتني رقم هاتف اطفائيي الانتحار ايضا. وهل تظنون انني أمزح ، أو لم تسمعوا من قبل بهذه المهنة ؟ قالت الممرضة بالحرف الواحد : يمكنك ان تتصل بهذا الرقم إذا شعرت بأنك مقدم على فعل خطر. هم سيأتون في الحال. لم أصدق حين سمعت بأن هناك سيارة أسعاف لأنقاذ المنتحرين. لكن هل هو انقاذ أم فضول لمعرفة قصص التجارب الفاشلة. فأي منتحر يضع رأسه في الأنشوطة ثم يخرج من جيبه هاتفه الخلوي و يتلفن الى الإسعاف... اوكي... اوكي ... اوكي... أنا موافق على زيارة الطبيب ، لكن بشروط : أن يأتي بأجوبة أخرى غير التي أعرفها. أريد أجوبة مقنعة عن أزمتي حين أدور فجرا في الشوارع. أريد أن اسأل الطبيب عن تلك الرغبة الدينية الغامضة التي تخضني في مثل هذه الساعة الصباحية المباركة.

شكرا لك سيدتي. هاتي رقم هاتف جماعتك. عيناك جميلتان، وهذه الزهرة الجميلة. اقصد حلقة الأذن. هل هي نرجس ؟

كنت أقول للطبيب قبل ان يقطع الى نصفين ويحرق بسيارته الأطفال :

ـ دكتور. هل تعرف أني حين أخرج من البيت ويلامس وجهي الهواء البارد تفيق تلك الرغبة. مياه دافئة تصعد من ينابيع مجهولة الى رأسي. أفقد ثقل جسدي ثم أشعر انني صرت غيمة بوذية. كيف أوضح لك الأمر. أنظر ، هو ذا طائر نورس يخطف من مجموعة عصافير قطعة خبز صغيرة ويصعد بها الى سطح محطة القطار...

ـ دكتور... أستطيع أن أسمي مشاعري حينها بالرغبة في التقبيل. أن أقف مثل موزعي الصحف المجانية والأعلانات أمام باب المحطة ، وأعترض طريق الناس المسرعين. أن أستوقف الناس لتقبيل أياديهم، أحذيتهم، ركبهم، حقائبهم. ولو سمحوا لي أن أعرّي مؤخراتهم لدقائق، ولقبلتها. أسمحي لي سيدتي أن أقبل كم معطفك... أرجوك سيدي تقبل مني هذه القبلة في ربطة عنقك. قبلات من دون مقابل ، قبلات حزينة ومخلصة. ولمرات كثيرة يادكتور، لا أريد تقبيل الناس فقط بل آثارهم على الأرصفة : قبلات لأعقاب السجائر، لمفتاح فقدته عجوز، لقناني البيرة التي خلفها السكارى ليلة أمس ، لأرقام في وصولات مهملة. قبلات تمتزج فيها غريزة الأمومة بالشبق. مثلما يمتزج الليل بالنهار في رأسي ...

ـ دكتور. ثم تنقشع فجأة هذه الرغبات تماما كما يحصل لسماء صافية إقتحمتها عصابة من الغيوم البدينة الوقحة. شئ ما شبيه بالتعذيب يحدث لي كما لو أن سجانا وحشيا يقلع أظافري. أشعر يادكتور أن فكي صار فك حيوان وذيلا نبت في مؤخرتي. الرعب يادكتور يعربد في حنجرتي التي جفت وتبحث عن قطرة ماء وأيّ كان الثمن ، حتى لو كان شرف الانسانية. الظمأ والكره يختلطان في رأسي الذي صار بوقا ينفخ أناشيدا سادية. لذا أريد هذه المرة أسترداد قبلاتي المجانية تلك. أريد أن أقطع خصيتيّ ذاك الرجل المسرع الذي يشعل سيجارته عند باب المحطة. أريد أن اغرز أظافري في وجه ذاك الطفل الذي تدفعه أمه صوب محطة المسافرين. طفل يعلمونه السفر والرعب. طفل آخر يادكتور. فارزة أرق أخرى بين الليل والنهار ...
ـ دكتور : انا ولدت في بغداد. جدي فلاح جاء الى المدينة. جدي كان يظن أن الشوارع هي ممرات مائية في أهوار الجنوب. صدمته سيارة ومات. ابي ظل جنديا الى ان رحل بالسكتة الدماغية. وامي لم تكن تقرأ وتكتب. امي تلطم في الحرب والسلام. وانا كنت اجلس في ظهيرة تموز اقرأ في مطر السياب. أخوتي صاروا شرطة ومساجين ومصلين. إذن من المفروض ( حسب شروط الاصالة ) ان اكتب رواية واقعية عن سيرة الماء واللطم واحفاد علي بن ابي طالب. ان اخصص وقتي لدراسة التراث ، لفهم مساعي القمل الذي يهرش فروة رأسي. جدي جاء الى المدينة ليحمل صورة الزعيم. جدي الذي هرب من الجوع والبعوض.

ـ دكتور ... أنت تعرف أن هناك نوعين من السموم. الطبيعي والمصّنع. و هي ُتصنف حسب مصادرها أو طبيعتها الكيمياوية. منها التي تسمى الكاوية وأخرى المهيجة وهناك سم الاعصاب وسم الدم. الكاوية تتلف الأنسجة مباشرة. والمهيجة تحرق الاغشية المخاطية. سم الدم يمنع وصول الأوكسجين الى الدم. كما أعرف أن السموم تصل الجسم عادة عن طريق البلع أوالإستنشاق أو اللسع أو المص. الدفلة الحمراء وعين الديك والخروع والداثورة واللحلاح والشوكران هي أنواع من النباتات والاعشاب السامة. أما اللسع واللدغ فهو من اختصاص العقارب والأفاعي والسمك اللساع والسمندر وبعض الضفادع مثل ضفدع الطين. ومن أهم أعراض التسمم ، وهي تختلف فيما بينها حسب زمن مكوث السم في الجسد، إنبعاث رائحة في الفم تشبه رائحة الكحول. أنت يا دكتور تعرف أحسن. لكن أسمح لي أن أكمل كلامي .أنا ولدت بهذه العاهة، رائحة تفوح من فمي منذ الطفولة، وهي هذا اللسان العفن والسليط .اما الأعراض الاخرى التي جاءتني بها حياتي، فهي اتساع وانقباض حدقة العين، حرقة في الحلق، غثيان وقيء وأسهال وتشنجات وهذيان وازرقاق في الجلد وخلل في مشاعر الحب وإغماء أو نوم عميق كما السبات أو إضراب بدني. وفي حالة التسمم بدواء يمكن شوي تفاحة وتناولها الى حين أخذ المسموم الى المستشفى. لكن خل التفاح يستخدم ضد التسمم بسمكة متعفنة أو الفسيخ أو الساردين المعلب ، ويكون شربه بعد إفراغ المعدة بالتقيؤ، ولا داعي للفزع من لسعة نحلة أو بعوضة. ُننزع الأبرة ويدلك مكان اللسعة بالثوم أو ورق الكراث أو الحبقل. اما لسعة الأنسان لأخيه الانسان فهي بالتأكيد نهاية مؤسفة نواسي فيها المصاب المحتضر. ولاحاجة حينها الى أشياء كثيرة بل مجرد اشعال شمعة صغيرة لطرد الشياطين التي تتهيأ لنهش جسد الميت. أو الأسراع بالنفخ في فم المحتضر. وهذا يعينه في تلك اللحظات على اكتشاف الركام الهائل من الأوهام التي عاشها.
ـ دكتور . أجلس في المقهى ساعات وساعات حتى تؤلمني مؤخرتي. الفتاة التي تنحني فوق أوراقها وتكتب خرجت لتدخن سيجارة في باب المقهى. سقط القلم أثناء نهوضها. أحببت القلم بكل نقاء واخلاص. قلم يرقد غاضبا قرب ساق الكرسي. قلم فتاة جميلة ذهبت لتدخن سيجارة يرقد وحيدا كارها حياته القصيرة. كل حركة يادكتور ، كل أشارة مهما كانت بسيطة أو تافهة تسبب لي صداع الحب. لذا أحاول أن أبدو كحاقد بالغريزة. لكن ما معنى ذلك ؟ لاادري. لدي ، كما ترى ، حركات مدمن على الكحول الذي كف عن أن يجلب له المسرة. الا تلاحظ ذلك ! تخجلني فكرة تسرب قصص حبي الصغيرة هذه الى الآخرين. مرة أخبرت صديقا بأني أفكر بأزرار قميص شخص يجلس في المقهى وأكثر مما أفكر في حروب البلاد. لم أكن أتظاهر بقول الشعر او بالجنون. لكن نظرته اليّ تشبه الشتيمة.
ـ دكتور ... أكيد أنك لم تسمع بقصة السمكة المسمومة. هل تظن أنني مجنون احدثك عن السموم من دون سبب. في بداية سنوات الحصار الاقتصادي، في سنة 1991 أنتشرت في بلادنا قصة الأب والسمكة. كان قد أشترى سمكة كبيرة مع بعض الخضار والطرشي. شوى السمكة بنفسه. وأعد السلطات. ثم أكل مع بناته الست بعيون دامعة وقلب مرتجف. بالطبع لم تعرف بناته أن الأب قد سمم السمكة. لم يجد الرجل حلا آخر كي لاتصبح البنات بغايا. كان يبيع الأكياس البلاستيكية في السوق. وما كان يكسبه لم يكف للعيش. رحل وهو موقن من أن زوجته الراقدة في مقبرة النجف ستفهم. شأن ناس كثيرين لم يردوا ان يسموا ذلك جريمة . أما أنا فكنت أفكر في أحلام اليقظة ـ احلام بنات الرجل وهن يأكلن سمكة أبيهن اللذيذة. لاأدري أن كان للآخرين أحلام يقظة حين يأكلون بصمت. أنا أعرف أن لا وقت محددا لأحلام اليقظة ، وهذه هي ميزتها على احلام النوم الخاضعة للنظام لكن ليس الديمقراطي. إنها من إمتيازات جمهورية احلام اليقظة. كانت قصة الرجل نذيرا أفزع الناس في سنوات الحصار الاولى. لم يكن مسموما ذيل السمكة الذي تجمع فوقه الذباب في حاوية الزبل. أخذته قطة سمينة وأطعمت به صغارها على سطح تلك الدار. كم أتمنى أن تكون هناك مثل هذه القطة حقا. كل مأساة لاتتخللها تفاصيل مخترعة بطريقة مبالغ فيها وبكائية، لاتستحق ان تمثل على خشبة مسرح التراجيديات الكبرى. والآن يادكتور هل فهمت قصدي؟ ذيل السمكة هو فارزة أخرى. هناك فارزة شوكية في دماغي تمنعني من النوم. أنت محق. لك يا دكتور ، الكلام الآن. الناس لم يتكلموا آنذاك عن نوع السم في السمكة، بل تحدثوا طويلا عن قضية الجوع وشرف البنات...

ـ دكتور .. تريد القول إن بمكنة العالم أن يكون أبيض مثل قميصك. أوكي ، دكتور. وأن الانسان فارزة بين كلمتي ولادة وموت. لكني استحلفك بشرف مهنتك الانسانية ، أن تخبرني بمعنى هذه الجملة البيضاء الفارغة، وهل أن الفارزة ضرورية الى هذا الحد.

ـ دكتور ، فارزة اخرى من فضلك. اسمح لي ان اذهب الى الحمام . سأحدثك يادكتور حين اعود عن فارزة أخرى أسمها : الوحشة . لكن دعني الآن أفرغ أمعائي. أشعر أنني شريت برميلا من الوحل ...
ـ دكتور .... هل تعرف ان انواعا من الفئران تبدأ بقضم ذيلها حين تجوع. والفأرة الأهم التي عرفتها وأعانتني في أن أتنبأ بمصيري هي فأرة كافكا. هل قرأتها يا دكتور ، باللغة الفنلندية ؟ كيف سأترجمها لك. هي من سموم كافكا القصيرة جدا وعنوانها حكاية صغيرة :
قالت الفأرة، ياللأسف! يزداد العالم ضيقا كل يوم. كان كبيرا من قبل حتى أني خفت، وركضت، ركضت، وسررت حين رأيت أخيرا، الجدران تظهر في الأفق من كل جهة، غير ان هذه الجدران الطويلة تركض سريعا كي يلتقي بعضها ببعض واذا بي في آخر غرفة ، كما أني أرى هناك مصيدة سوف اسقط فيها .
( كان عليك ان تبدلي الاتجاه )
قال لها القط وهو يمزقها.

ـ شكرا دكتور ...

ـ والآن يادكتور، اخرجني من كرة الروث ، أرجوك.