الأحد، 22 فبراير 2009

صوت من الثلاجة










ـ لن اهتم ، فغدا ً أنا ميت ...
أطبطب على كتفي ليل نهار بهذه الحكمة الخاملة
حكمة تعرج ، بسبب شياطين الحياة ...
حياتي تشبه أحشاء بقرة مبعثرة في دكان القصاب، و اشعر اني أعيش في هلسنكي منذ قرون، وهذا يعني أني أعيش في ثلاجة. فأنا برتقالة لاجئة في ثلاجة، او ربما شريحة لحم الخنزير. من قبل كنت أقول لك يا صديقي، بأن خلق الرعب هو من أولويات الفنان ثم تأتي بقية الأحاسيس والمظاهر والافكار واللعب واللغة والتشويق كزخرفة فنية. صدّقني ، ليست فيّ اليوم رغبة وحتى لأعادة الانفاس التي أزفرها من صدري. هناك مضخة دخان في رأسي تنفث الأمراض على مدار الساعة. انا بأمس الحاجة الى التشبث بحكمة واحدة صغيرة في هذه الحياة. أحتاج الى طوق نجاة للخروج من بئر شكوكي المهجور.

من المفروض أني تعلمت الدرس : أن أجلس فوق المصطبة مثل تمثال حي، وان اتعلق في لعبة التهكم. لكن من المفروض ايضا أن يلقي أحدهم في جنازتي مزحة . لاأدري ان كانت تخص أنفي الطويل...
أنف الانسان مزحة في جنازة
وربما تكون أذنيه أو كرشه...
كرش الانسان طبخة كوميدية من الخراء.
انا موقن من أني سانتهي والدرس معي في قاع النهر .
في قرية نائية أتلفتها الذاكرة ، كان أحدهم يجوب مناديا : المزحة ستنقذ العالم في نهاية المطاف ، نظفوا صدوركم من الخوف ، استسلموا لدغدغة الريح ...

لكنني أريد أن ابكي مع مئة طفل تحت الشمس
أن يشرح لي احدهم قيمة السلام التي تساوي قيمة الحرب

يخيل إلي أني أمشي وسط زحام الشارع وانا أمارس العادة السرية بقضيب من جليد. لامن أجل التهكم بل من أجل المخيلة ، وربما من أجل أن أجرح يدي.
المخيلة التي تقول : كن بقرة تضرط قبل النوم
الانسان الذي يكتب : عن فلسفة الغائط
يدي التي تنزف بسبب الخوف من الحب

مع ذلك ياصديقي ، انا اؤدي جميع واجباتي مثل طاقم أسنان جديد في فم عجوز في أرذل العمر : أكتب من أجل ان لا أعود الى بلدي ،
و من أجل أن لاأعود الى اي مكان آخر.
أقول للأبقار الأخرى ( صباح الخير ) و (ليلة سعيدة ) .
أشاهد التلفزيون وأطلق حسرة على تسميمهم البيئة.
أكذب ُ إن سألت عن مشاعري الحقيقية تجاه الاطفال،
وأدخن علبة سجائر اضعها على صور الاطفال الذي أحرقتهم الطائرات.
أدندن مع الاغاني الشعبية وأبدي الملاحظات حول المطرب والحكاية ،
أدعي أنني أنسان نظيف غدر به الزمن.
أحاول أن أفكر مع الحالمين بشفرة الوجود والحكمة ، بضياع الله وصمته.
أحاول أن أُضحِك أصدقائي حين نثمل ،
أحاول أن أضاجع الزوجة بكل ما أملك ، بلساني وزبّي وأصابع يدي وساقي أن أدخل أمعائي الغليظة ونصف شراييني وأنفي الطويل...

أنفي الذي سيحضر جنازتي كذكرى هوائية
امي التي بكت على أكثر من شعب يحترق
ابي الذي تعطل قلبه في جبهة الحرب
اخوتي الذي سرقهم رجل يرتدي عمامة سوداء
الارض التي تدور بسبب طاقة الصدفة الازلية
أنا الذي يكتم ضحكته كلما لحست مؤخرته ذبابة الليل

ماهي ذبابة الليل ياحبيبي ؟
ذبابة لاتزور الجميع، هي ، وياللمفارقة ، رشيقة مثل عارضات الازياء
لكنها واقعية مثل واقعية المرآة التي تنظف أسنانك امامها
او مثل واقعية الطيور التي تحلق فوق المقبرة

من المفروض انني سأضع سلسلة مؤلفات علمية عن الواقعية
سبعة اجزاء تتحدث عن واقعية واحدة لاغير
ماالفرق بين الليل كواقع ومعجون الطماطم كواقع ايضا ..
قد يتحول الليل لبرهة الى نمر يعدو باقصى سرعة
وقد تتحول الطماطم في حلم امرأة الى اثداء تتضخم

الحياة في ثلاجة يا حبيبتي ليست مثل الحياة في الخارج. الحياة في ثلاجة تحتاج اولا الى الكآبة، ثم الى مصاريف كبيرة. فحياة محرومة من الكحول كهذه هي حياة مخيفة، هي تفاحة تتعفن، علبة سردين من البحر الأبيض في ثلاجة. الحياة ياصديقتي العزيزة قصيرة، ونحن قد جمدنا من فرط الحزن والشكوى. هناك ايضا حاجة الحياة في ثلاجة الى تعلم الصمت. فالبرد القارص هو عقوبة لمن تحدث طويلا من دون جدوى. في الثلاجة نحن نقرأ عن الخير والشر مثلما نقرأ عن نشرة الأنواء الجوية. في الثلاجة يرتدي مقدم الأخبار درعا شتائيا ويطبع على وجهه إبتسامة عريضة كي لا يجمد المشاهدون. هنا الدم لايسيح كما يسيح على الأرصفة في بلادنا. الدم هنا ياصديقتي يتجمد. صحيح أننا لانسمع هنا لعلعة الرصاص ولا دوي الأنفجارات ، لكننا نسمع من الثلوج الهاطلة فحيح الوحشة. هو كالهمس، لكنه يصم الآذان من شدة بياضه. كيف أصف لك الحياة في ثلاجة ياصديقتي...
أناخبز أسود في الثلاجة. أنا ست قناني بيرة . بيضة في ثلاجة. أنا خل التفاح. أنا جبنة ، طماطم ، أنا دواء يحتاج الى درجة حرارة منخفضة. لحم خروف متجمد. أنا سلطة خيار ولبن. أنا روبيان. أنا ذراع أخطبوط في ثلاجة...
هل تريحك هذه المخيلة الذابلة ؟
هل يريحك قضيبي حين يرقص الهيب هوب بين فخذيك ؟

اذهب كل مساء الى الغابة وأصيح : يا خوف، يا ليل ، يا عيني يا خووووف ...

لكن صوتي البشري لا يتناغم مع أصوات الغابة. هو يذكر بسمفونية التفاهات التي تعزف في المدينة، تلك الموسيقى الحجرية المتكسرة في ماكنة العيش. تبدأ الصرير منذ الصباح الباكر. في الأسواق التجارية والبنوك والجامعات والمستشفيات والبرلمان والبارات والمطاعم. أصوات الخزي البشري. أصوات في الباصات والقطارات ، أصوات في الطائرات والسفن ، أصوات شجارات البيوت، شتائم ، إهانات ، لعلعة رصاص ، لغط ، صراخ ، بكاء، هتافات مظاهرات من أجل البيئة . تصفيق عند منح جائزة للسلام بينما حروب جديدة تشتعل في بقاع جديدة ، أصوات سيارات تصطدم، سيارات ملغومة تنفجر، سيارات لصوص، سيارة أسعاف، سيارة بنك محملة برزم النقود ، سيارة أطفاء. أصوات جوامع وكنائس، خطب جمعة ، مواعظ، أصوات جنس جماعي ، زجاج يتكسر، أصوات تدخل من الأذن اليمنى، وأصوات تخرج من اليسرى. لو كان الأنسان أصم لكن العالم أقل ايلاما. هناك صوتان فقط يصلحان لأحلال السلام : أغاني الغابة والموسيقى. نعم ، حبيبتي ، الغابة صوت. صوت قديم يجدد نفسه مثل نهر لايتوقف عن الجريان. لقد لوثنا النهر ياحبيبتي. و نحن قد قطعنا الأشجار. وطرنا الى الفضاء بحثا عن المزيد من الأصوات. لقد دمرنا الإنسان فينا بألقاء حطب أكثر في فرن عالمنا المستعر. لقد طبخنا وخبزنا وقتلنا كما السفاحين، ومنحنا الجوائز وأوسمة الشجاعة للمجانين والقتلة. نحن أبطال نستحق الشنق في نهاية الفيلم ، أما الجماهير فهي تبكي لأنها تعجز عن إنقاذ البطل الذي يشنقوه وسط الساحة. لقد ذبحنا أنساننا من الوريد الى الوريد وجلسنا نبكي عند قدميه. كتبنا القصائد من أجل كرامة الانسان ، بينما كتب آخرون حروبا طويلة لم ولن تنتهي. أُغرقت قصائدنا بالذل والخسارات. البشرية أثنان، البشرية صوتان. أغلبية تتحدث من دون توقف، وأقلية نباتية صامتة تتحدث بالأشارات.

حسنا ...
وداعا ياحبيبتي

لم تكن هناك وردة اجمل من بظرك
وداعا ياصديقتي

لم تكن هناك اغنية اجمل من قبلتك

وداعا ايتها الذبابة
وداعا انفي
وداعا ايها الثلج
وداعا ايتها البقرات
وداعا يا صوتي الهزلي

وداعا وداعا وداعا
يا أحبائي انا لا امزح ،
بل انقلب على ظهري مثل صرصار من شدة الضحك
اضحك من الشعر العظيم ، الجميل، العميق، الحاد، البسيط ، الحكيم، المتسامي، المبخر، المنحوت، المقلي، المتصابي، المقدس...

اضحك من كل شعر لاينقلب على ظهره
اضحك من كل انسان لا تضحك فيه الصراصر