الأحد، 19 سبتمبر 2010

الإرشيف و الواقع

لكل نزيل في محطة استقبال اللاجئين حكايتان. واحدة واقعية وأخرى إرشيفية. الحكايات الإرشيفية هي الحكايات التي يرويها اللاجئون الجدد من أجل حق الحصول على اللجوء الانساني. وتدون هذه الحكايات في دائرة الهجرة وتحفظ في ملفات خاصة. اما الحكايات الواقعية فتبقى حبيسة في صدور اللاجئين ليعتاشوا على ذكراها بسرية تامة. لكن هذا لايعني انه يمكن التمييز بسهولة بين حدود الحكايتين. فقد تختلطا ويصبح التمييز بين الحكايتين مجرد محاولة عبثية. قبل يومين وصل لاجئ عراقي جديد الى مدينة مالمو جنوب السويد. رجل نحيل في نهاية الثلاثين من العمر. ادخل الى محطة الاستقبال واجريت له بعض الفحوصات الطبية. ثم اعطوه غرفة وسرير ومنشفة وشرشف وصابون وملعقة وشوكة وسكين وقدر لطبخ الطعام. يجلس الرجل اليوم امام موظف دائرة الهجرة يروي حكايته بسرعة غريبة ، بينما موظف الهجرة يطلب منه ان يبطأ السرد قدر المستطاع :

أخبروني أنهم باعوني الى جماعة اخرى. كانوا فرحين جدا. ظلوا طوال الليل يشربون الويسكي ويضحكون. حتى أنهم دعوني لمشاركتهم الشرب.اعتذرت انا واخبرتهم بأنني رجل ملتزم بدينه. اشتروا لي ملابس جديدة وطبخوا لي في تلك الليلة دجاجة وقدموا لي الفواكه والحلويات. يبدو ان ثمني كان جيدا. حتى ان قائد المجموعة سكب دموعا حقيقية اثناء توديعي. عانقني مثل أخ: أنت رجل طيب للغاية... اتمنى لك كل الخير والموفقية في حياتك ، قال الرجل الاعور.
اظن انني بقيت مع الجماعة الاولى ثلاثة أشهر فقط. وكانوا قد إختطفوني في تلك الليلة الباردة والمشوؤمة. حدث ذلك في بداية شتاء 2006. تلقينا التعليمات بالتوجه الى نهر دجلة. كانت هي المرة الاولى التي نتلقى فيها الأوامر مباشرة من مدير قسم الطوارئ في المستشفى. عند ضفة النهر كان رجال الشرطة يحيطون بست جثث من دون روؤس ، وكانت الروؤس قد وضعت في شوال طحين فارغ أمام الجثث. خمن رجال الشرطة بأن الجثث لرجال دين. كنا قد تأخرنا في الوصول بسبب الامطار الشديدة . كدس رجال الشرطة الجثث في سيارة الاسعاف التي يقودها زميلي أبو سالم وحملت انا الى سيارتي شوال الروؤس. كانت الشوارع خالية ولم يكن يخرق سكون ليل بغداد الموحش سوى اصوات رصاص في البعيد وصوت طائرة مروحية امريكية تدور فوق المنطقة الخضراء. انطلقنا عبر شارع أبي نؤاس بأتجاه شارع الرشيد، وكنا نسير بسرعة متوسطة بسبب الامطار ، ف( حين تحمل جريحا أو مريضا يحتضر، تكون سرعة سيارة الاسعاف هي الدليل على المسوؤلية الانسانية. اما حمل الروؤس المقطوعة في سيارة اسعاف فهو لايحتاج إلا الى سرعة عربة موتى تجرها البغال في غابة مظلمة من القرون الوسطى ) هذا ماكان يردده علينا مدير شعبة الطوارئ في المستشفى. وهو رجل كان يعتبر نفسه فيلسوفا وفنانا ، لكنه ( ولد في البلد الخطأ ) على حد قوله. مع ذلك كان يحترم عمله ويعتبره من الواجبات المقدسة. فأدارة قسم سيارات الاسعاف في شعبة الطوارئ كان يعني لديه إدارة الخط الفاصل بين الحياة والموت. كنا نسميه ـ الاستاذ ـ وكان زملائي الاخرين يمقتونه وينعتونه بالمجنون. وأنا عرفت سبب المقت. فكلامه الغامض والعدائي جعله رجلا معقدا في نظر الاخرين. لكني كنت اكن له الكثير من الاحترام والمحبة بسبب حديثه الجميل والشيق. قال لي مرة : إن الدم المسفوك والخرافة هما أصل العالم. والانسان ليس هو الكائن الوحيد الذي يقتل من أجل الخبز أو الحب او السلطة ، فالحيونات في الغابة تفعل ذلك بشتى السبل ، لكنه الوحيد الذي يقتل بسبب الإيمان. وغالبا ما كان يختم حديثه بجملة مسرحية وهو يشير بيده الى السماء : لايمكن حل قضية الانسان الا بالرعب المتواصل. كان زملي أبو سالم يأخذه الظن بأن الاستاذ على علاقة بالجماعات الارهابية بسبب عنف كلامه. لكني كنت أدافع بكل إخلاص عن الرجل الذي لا يفهمون بأنه فيلسوف يابى أن يطلق المزح السخيفة كما يفعل طوال النهار سائقو سيارات الاسعاف الحمقى. كنت احفظ كل جملة وكلمة يقولها. فأنا كنت أسير محبته والإعجاب به.
اعود الى تلك الليلة الملعونة عندما انعطفنا بأتجاه جسر الشهداء. أنتبهت الى أختفاء سيارة الاسعاف التي يقودها أبو سالم ، ثم لمحت في المرآة الجانبية سيارة شرطة مسرعة تلحق بي. ركنت السيارة بدوري على جانب الطريق وسط الجسر. ترجل من سيارة الشرطة أربعة شبان ملثمين يرتدون زي قوات الشرطة الخاصة. أمرني قائد المجموعة بالترجل من السيارة وهو يوجه مسدسه في وجهي. بينما اخذ رفاقه الاخرون بأنزال شوال الروؤس من سيارة الاسعاف
( لقد اختطفتُ وهم سيقطعون رأسي ... ). كان هذا أول مافكرت به حين يكبلوني وحشروني في صندوق سيارة الشرطة. أحتجت الى عشر دقائق فقط لأدراك حقيقة ماينتظرني... قرأت آية الكرسي ثلاث مرات في ظلام الصندوق. شعرت بأن جلدي أخذ يتشقق. لاادري لم فكرت في تلك اللحظات المظلمة في وزن جسمي. ربما 70 كيلو. كان رعبي يزداد كلما أبطأت سيارتهم أو إنعطفت. وحين تعاود الانطلاق بسرعة ، كان ينبض فيّ إحساس غامضه هو مزيج من الطمأنينة والقلق. ربما فكرت حينها بحديث الاستاذ عن علاقة السرعة بالاحتضار. لم أفهم ماالذي كان يعنينه بالتحديد. كان يقول ان من يحتضر في غابة يشعر برعب أشد من الذي يحتضر داخل سيارة أسعاف مسرعة. لأن الاول يشعر بأن الزمن قد انفرد به ، بينما يخيل للثاني بأن هناك من يتضامن معه. أكيد أنه وهم الهروب بعكس الاتجاه. اذكر ايضا أنه أعلن مبتسما : اتمنى إحتضارا داخل مركبة فضائية تسير بسرعة الضوء.
خيل إلي أن جميع الجثث المجهولة والمشوهة التي حملتها في سيارة الاسعاف منذ سقوط بغداد، كانت أمامي. ثم شاهدت الاستاذ في الظلام الذي يلفني حاملا رأسي المقطوع من كومة نفايات، بينما يطلق زملائي مزحة داعرة عن حبي للاستاذ . اظن ان سيارة الشرطة لم تقطع مسافة طويلة قبل أن تتوقف عن السير. في كل الأحوال هم لم يخرجوا من المدينة. حاولت أن أتذكر سورة الرحمن ، لكنهم أنزلوني وقادوني الى داخل بيت كانت تفوح منه رائحة السمك المشوي ووصلني بكاء طفل. فكوا الرباط عن عينيّ ووجدت نفسي في غرفة باردة وخالية من الاثاث. ثم إنهال علي بالضرب المبرح ثلاثة أشخاص مجانين . وبعدها ساد الظلام من جديد.

خيل لي أنني سمعت صياح ديك أول الامر. أغمضت عيني لكنني لم أتمكن من النوم. كنت اشعر بألم حاد في اذني اليسرى. أنقلبت بصعوبة على ظهري وزحفت بأتجاه الشباك الذي كان قد سد بالطابوق حديثا. كنت أشعر بعطش شديد. كان من السهل التكهن من أنني داخل أحد بيوت الأحياء البغدادية القديمة. كان ذلك واضحا من طراز بناء الغرفة ، خاصة من باب الخشب القديم. في الحقيقة لااعرف مالذي يهمكم بالتحديد من تفاصيل قصتي كي أحصل على حق اللجوء في بلدكم. أنا أشعر بصعوبة بالغة في وصف ايام الرعب تلك. لكنني أريد ان أذكر بعض الامور التي تهمني ايضا. كنت اتصور أن الله ومن بعده الاستاذ لم يتخليا ابدا عني طوال محنتي. كان الله حاضرا بقوة في قلبي، يروي طمأنينتي ويدعوني الى الصبر. وكان الاستاذ يشغل ذهني ويخفف عني وحشة الإسر. كان عزائي وسلوتي. كنت أفكر طوال تلك الأشهر العصيبة بما قاله الاستاذ عن صديقه المهندس داود. ماالذي كان يعنيه بأن العالم موصول ببعضه بعض. واين قدرة الله ومشيئته في مثل هذه الامور؟ شربنا الشاي في باب المستشفى عندما قال الإستاذ: حين كان صديقي داود يقود سيارة العائلة في شوارع بغداد كان هناك شاعر عراقي يكتب في لندن مقالا ناريا في مديح المقاومة و على طاولته امامه زجاجة ويسكي تعينه على قسوة القلب. ولأن العالم موصول ببعضه بعض بالاحاسيس والكلمات والكوابيس وبواسطة شرايين سرية أخرى فقد خرح من مقال الشاعر ثلاثة رجال ملثمين واوقفوا سيارة العائلة. قتلوا داود وزوجته وطفله وأباه. أما الأم فكانت بإنتظارهم في البيت. أم داود لاتعرف الشاعر العراقي ولا الرجال الملثمين. ام داود تعرف طبخ السمك الذي كان ينتظرهم. نام الشاعر من شدة السكر فوق الكنبة في لندن. بينما برد سمك ام داود وغابت الشمس في بغداد.
فتح باب الغرفة الخشبي، ودخل شاب طويل شاحب الوجه ، يحمل وجبة الفطور. أبتسم لي وهو يضع الطعام أمامي. ترددت اول الامر بما يمكنني قوله او فعله. ارتميت عند قدميه وتوسلت باكيا ( أنا أب لثلاثة اطفال... أنا رجل متدين واخشى الله ...لاعلاقة لي بالسياسة ولا بالمذاهب ... الله يستر عليكم ... أنا مجرد سائق سيارة اسعاف ... قبل السقوط ... وبعد السقوط ... أقسم بالله ونبيه الكريم) وضع الشاب اصبعه على شفتيه ، وخرج منصرفا. لقد شعرت أن نهايتي قد حلت. شربت قدح الشاي وقمت للصلاة عسى ان يغفر الله لي ذنوبي . في السجدة الثانية شعرت بطبقة من الجليد تكتسح جسدي، وكدت أطلق صرخة جزع، غير أن الشاب فتح الباب. كان يحمل جهاز اضاءة صغير محمول على مسند، وبرفقته صبي يحمل الكاواشنكوف. وقف المراهق الى جانبي وهو يصوب السلاح الى رأسي، ولم يتحرك بعد ذلك من مكانه. دخل رجل بدين في الاربعين من العمر. لم يلتفت لي. علق على الحائط لافتة قماش سوادء كتبت فيها آية قرانية تحث المسلمين على الجهاد. ثم دخل شخص اخر ملثم يحمل كاميرا فيديو وجهاز كمبيوتر صغير. دخل بعد ذلك صبي وهو يحمل طاولة خشبية صغيرة. داعبه الرجل الملثم عاركا أنفه وشكره ، ثم وضع جهاز الكمبيوتر على الطاولة وانشغل بتثبيت كاميراته بمواجهة اللافتة السوداء . جرب الشاب النحيل تشغيل جهاز الاضاءة ثلاث مرات ثم أنصرف.
صاح الرجل البدين : ابو جهاد .. ابو جهاد.
اتى صوت الشاب من خارح الغرفة : فد دقيقة .. عيني أبو أركان...
عاد الشاب هذه المرة وهو يحمل شوال الروؤس الذي اخذوه من سيارة الاسعاف. سد الجميع أنوفهم بسبب عفونة الكيس. طلب الرجل البدين مني أن اجلس أمام اللافتة السوداء، أحسست ان ساقي قد شلتا. لكن الرجل البدين سحبني من ياقة قميصي بعنف. عندها دخل رجل أعور آخر، ضخم الجثة، وأمر البدين بأن يتركني لحالي، وكان هذا يحمل في يده بدلة عسكرية. جلس الأعور قربي وهو يضع ذراعه حول كتفي مثل صديق، وطلب مني ان اهدأ. أخبرني بأنهم لن يذبحوني اذ كنت متعاونا وطيب القلب. لم افهم جيدا معنى ( طيب القلب ) هذه. أكد لي بأن الامر لن يستغرق سوى بضع دقائق. أخرج الأعور من جيبه ورقة صغيرة وطلب مني ان أقرأها. بينما قام الرجل البدين باخراج الروؤس المتعفنة وقام بصفها أمامي. كان مكتوبا في الورقة بأنني ضابط في الجيش العراقي وأن هذه الروؤس هي لضباط آخرين، وكنت قد قمت برفقة زملائي الضباط بمداهمة البيوت واغتصاب النساء وتعذيب المواطنين الابرياء ، وكنا نتلقى الأوامر بالقتل من ضابط كبير في الجيش الامريكي، مقابل مكافآت مالية كبيرة. طلب مني الأعور أن أرتدي البدلة العسكرية. أمر المصور الجميع ان ينسحبوا الى خلف الكاميرا. ثم تقدم مني وأخذ يعدل رأسي مثلما يفعل الحلاق. بعدها عدّل صف الروؤس. ثم عاد خلف كاميراته وصاح : تفضل !!
كان صوت المصور من اكثر الاصوات إلفة على أذني. ربما كان يشبه صوت ممثل شهير. او كأنه كان صوت الاستاذ حين يجهد في ان يتحدث بهدوء مصطنع. بعد تصوير شريط الفيديو، لم التق من بافراد الجماعة عدا الشاب الذي كان يجلب لي الطعام. وكان هذا يمنعني من طرح اي سؤال. وكان في كل مرة يأتي لي بالطعام يلقي علي مزحة جديدة عن الساسة ورجال الدين. كانت امنيتي الوحيدة ان يسمحوا لي بالاتصال بزوجتي. كنت اخبأ بعض النقود لليوم الاسود في مكان لايخطر على بال الجن نفسه. لكنهم رفضوا ذلك بشدة. أخبرني قائد المجموعة الأعور ان كل شئ يتوقف على نجاح شريط الفيديو. وقد تحقق ذلك فعلا بسرعة كبيرة أدهشت الجميع. لقد عرضت قناة الجزيرة شريط الفيديو. سمحوا لي بمشاهدة التلفزيون، وكانوا ينطون يومها من الفرح. حتى ان الرجل البدين قبلني من رأسي وقال انني ممثل عظيم. مااثار غضبي هو مقدم الاخبار في قناة الجزيرة الذي أكد للمشاهدين بان القناة تأكدت عبر مصادرها الموثوقة من صحة الشريط وبأن وزارة الدفاع اعترفت بأختفاء الضباط. بعد نجاح عرض الشريط اخذوا يعاملونني بطريقة كانت أكثر من جيدة. اعتنوا بطعامي وفراش نومي وسمحوا لي بالاستحمام، حتى توج تكريمي في الليلة التي باعوني فيها للجماعة الثانية. دخل الغرفة ثلاثة رجال ملثمين من تلك الجماعة ، وبعد ان ودعني الأعور بحرارة ، أنهال علي الرجال الجدد بالضرب ثم كبلوني وكمموا فمي وحشروني داخل صندوق سيارة انطلقت بسرعة مرعبة.

قطعت سيارة الجماعة الثانية مسافة طويلة هذه المرة. ربما وصلنا اطراف بغداد. فقد أنزلوني في قرية موحشة تسرح فيها الكلاب وتعوي في كل مكان. حبسوني في زريبة أبقار. وكان هناك رجلان يتبادلان حراسة الزريبة ليل نهار. لا اعرف لم عمدوا الى تجويعي واذلالي. كانوا يختلفون تماما عن الجماعة الاولى. وكانوا ملثمين طوال الوقت، ولم يتكلموا معي البتة. وكانوا يتفاهمون فيما بينهم بالاشارات. بل لم يكن هناك اي صوت بشري يسمع من القرية سوى نباح الكلاب طوال الشهر الذي قضيته في الزريبة. كانت الساعات تمر ثقيلة ومضجرة. كنت أتمنى ان يحدث اي شئ ، بدل هذا السجن المؤبد مع ثلاث بقرات. كففت عن التفكير بهؤلاء الناس والى أي طائفة أو حزب ينتمون، ولم أعد أندب حظي. كنت أشعر بأنني قد عشت مايحدث لي في زمن ما ، وان هذا الزمن مجرد برهة لن تدوم طويلا. لكن الاحساس بهذا الزمن هو الذي يصطنع البطء والدوار. لم يعد يخطر ببالي ان أحاول الهرب او سؤالهم عما يريدون مني. لقد شعرت أنني أقوم بمهمة ما. واجب قسري علي ان اؤديه حتى النفس الأخير. ربما هناك قوة خفية تكاتفت مع قوة بشرية للقيام بلعبة سرية اهدافها أكبر من أن يتخيلها رجل بسيط مثلي( لكل انسان واجب شعري وأخر انساني ) كان الاستاذ يقول. لكن إن كان ذلك صحيحا كيف لي أن أميز ، وهكذا بسهولة ، بين حدود الواحب الانساني والآخرالشعري ؟ فانا أفهم مثلا ان العناية بزوجتي واطفالي هي من الواجبات الانسانية. وان رفض الكراهية هي من الواجبات الشعرية. لكن لم كان الاستاذ يقول اننا نخلط بين الواجبين و لانعترف بالشق الشيطاني الذي يوجه كلا الواجبين. فالواجبات الشيطانية هي القدرة على الوقوف في وجه الانسان حين يوّجه انسانيته ، او حتى الشعر المتطرف ، صوب الهاوية. وكان هذا كثيرا جدا على عقل رجل بسيط مثلي أكمل دراسته المتوسطة بمشقة كبيرة. على كل حال ، أظن
ان ما أقوله لاعلاقة له بطلب اللجوء. فما يهمكم هو الفزع. ولو كان الاستاذ حاضرا لقال بأن الفزع يكمن في ابسط الألغاز التي تلتمع في نجمة باردة من سماء هذه المدينة. في الأخير دخلوا الزريبة بعد منتصف الليل. قام احد الملثمين بفرش زاوية من الزريبة بالسجاد الفاخر. ثم قام زميله بتعليق لافتة سوداء مكتوب عليها : جماعة الجهاد الاسلامي فرع العراق. بعد ذلك دخل المصور مع كاميرته، وقد بدا لي انه نفس مصور الجماعة الاولى. كانت حركاته يديه شبيهة بحركات المصور الاول. الفارق الوحيد انه يتفاهم الآن مثل الآخرين بالاشارات. طلبوا مني ان أرتدي دشاشة بيضاء وأجلس امام اللافتة السوداء . أعطوني ورقة و أمروني أن أقول ما فيها أي أنني انتمي الى جيش المهدي وأنني ذباح شهير و قمت بفصل مئات الروؤس من رجال السنة وباننا نتلقى المساعدات من ايران. وقبل ان انهي القراءة صدر عن احدى البقرات خوار عال طلب المصور إثره أن أعيد القراءة. اخرج احد الرجال البقرات الثلاثة كي نكمل تصوير مشهد الزريبة.

ادركت فيما بعد ان جميع الذين اشتروني كانوا ينقلونني عبر الجسر نفسه. ولا أعرف السبب. جماعة تعبر بي من جسر الشهداء صوب الكرخ ثم الجماعة التالية تعود بي عبر الجسر نفسه الى الرصافة. اظن ان قصتي لن تنتهي بهذه الطريقة. واخشى ان تقولوا كما قال الاخرون عن حكايتي. يبدو لي من الافضل ان اختزل لكم الحكاية بدل ان تتهموني بأختلاقها: باعوني الى جماعة ثالثة. عبرت السيارة بسرعة جسر الشهداء مرة أخرى. نقلت الى بيت فاحش الثراء. فقد كان سجني هذه المرة في غرفة نوم مزودة بسرير مريح وجميل من تلك التي نشاهد ابطال الافلام يمارسون الجنس فيها... وتبخر الخوف من نفسي وصرت أفقه فكرة الواجب الخفي الذي إختاروني له ، و أنا قمت به لئلا اخسر رأسي. لكني فكرت ايضا بأن اختبر رد فعلهم في بعض الامور. فبعد تصوير فيديو جديد أتحدث فيه عن انتمائي الى الجماعات الاسلامية السنية وعن عملي في تفجير مساجد الشيعة واسواقهم الشعبية، طالبتهم ببعض النقود لقاء تصوير الشريط هذا. كان جوابهم الحاسم، ضربا لن أنساه. طوال عام ونصف من رحلة اختطافي، تنقلت من وكر الى اخر. صوروا لي أشرطة فيديو أتحدث فيها عن انتمائي الى الاكراد الخونة والمسيحين الكفار و ارهابي السعودية و المخابرات السورية البعثية والى حرس ثورة ايران المجوسية. في هذه الاشرطة قتلت واغتصبت واحرقت وفجرت وقمت بجرائم لايتصورها عاقل. جميع اشرطة الفيديو هذه عرضتها فضائيات العالم ، وجلس خبراء وصحفيون وساسة ينقاشون ما قلته وفعلته. اما الحظ السئ الوحيد الذي صادفنا ، كان عند تصوير الفيديو الذي اظهر فيه كجندي أسباني يسلط أحد رجال المقاومة سكينا على رأسه ويطلب من القوات الاسبانية الانسحاب من العراق. لقد رفضت جميع المحطات الفضائية بث الشريط. فالقوات الاسبانية كانت قد غادرت البلاد قبلها بعام . وكدت أدفع ثمنا باهظا على هذه الغلطة ، فتلك الجماعة أرادت ذبحي إنتقاما على ما حدث. لكن من أنقذني كان المصور الذي إقترح عليهم فكرة رائعة اخرى ، كانت النهاية لأدواري الفيديوية: ألبسوني زيا للمقاتلين الافغان وشذبوا لحيتي ثم وضعوا على رأسي عمامة سوداء. وقف خلفي خمسة. وجاءوا بستة رجال يصرخون ويستغيثون بالله ونبيه وآل بيته ذبحوهم أمامي مثل الخراف وأنا أعلن بأني الزعيم الجديد لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، كما هددت الجميع من دون استثناء.

في ساعة متأخرة من الليل. جلب لي المصور ثيابي القديمة ثم قادني الى سيارة الاسعاف الواقفة امام الباب. وضعوا تلك الروؤس الستة في شوال ألقوه في السيارة. في تلك اللحظات راقبت حركات مصور الفيديو و أيقنت من أنه مصور الجماعات كلها ، وقد يكون الراس المدبر لهذه اللعبة الرهيبة . جلست خلف مقود سيارة الأسعاف بيدين مرتجفتين. ثم أصدر المصور الأمر من خلف لثامه : انت تعرف الطريق ... عبر جسر الشهداء ... الى المستشفى...

أنا أطلب اللجوء في بلدكم بسبب الجميع. كلهم قتلة ومتآمرون، زوجتي واولادي وجيراني وزملائي والله ونبيه والحكومة والصحف وحتى الاستاذ الذي كنت اعتبره ملاكا ، وعندي شكوك بان مصور الجماعات الارهابية كان الاستاذ بعينه. لم يكن كلامه الغامض سوى دليل على تواطئه وقذارته. لقد قالوا جميعا ان غيابي عن العمل لم يستغرق عاما ونصف ، فقد عدت في الصباح من عملي في تلك الليلة الماطرة. والاستاذ الشرير قال في ذاك الصباح : العالم مجرد حكاية دموية افتراضية ونحن جميعا قتلة وأبطال. وهذه الروؤس الستة لايمكنها ان تكون الدليل على ماتقول كما ليست بالدليل على أن الليل لن يخيم في المساء.


بعد ثلاثة ايام من تدوين هذه الحكاية في أرشيف دائرة الهجرة ، أدخلوا صاحبها الى مستشفى الامراض النفسية. وقبل ان يهم الطبيب بسؤاله عن بعض ذكريات طفولته ، لخص سائق سيارة الأسعاف حكايتة الواقعية هذه المرة بكلمتين :

- أريد النوم .
وقالها بتوسل ومذلة...


2008

السبت، 7 نوفمبر 2009

شاحنة برلين





هذه القصة حدثت في الظلام. ولو قدر لي ان أكتبها مرة أخرى ، لكتبت فقط ماأطلق حينها من صيحات فزع و تلك الاصوات الأخرى الغامضة التي رافقت المجرزة. يصلح قسم مهم من القصة لعمل اذاعي تجريبي. أكيد أن غالبية القراء ترى القصة مجرد تلفيق قام به كاتب قصصي او قد تكون مجازا متواضعا عن الرعب. لكنني لا أجد أن هناك حاجة الى أن اقسم كي تصدقوا بغرابة هذا العالم . حاجتي هي كتابة هذه القصة ، كلطخة خراء في قمصان النوم ، ولربما لطخة على شكل زهرة برية.
في صيف عام 2000 كنت أعمل في بار وسط أسطنبول. أعانتني هنا لغتي الانكليزية الركيكة ، فزبائن البار كانوا من السياح ، واغلبهم من الالمان الذين كانوا يتحدثون بانكليزية مضحكة ايضا. كنت هاربا حينها من جحيم سنوات الحصار الاقتصادي. لاخوفا من الجوع ولا من الديكتاتور، بل كنت هاربا من نفسي . ومن وحوش أخرى. كان الخوف من المجهول في تلك السنوات القاسية يضاعف من طمس هوية الأنتماء الى الواقع المألوف ويدفع الى السطح بوحشية كانت مطمورة تحت حاجات الأنسان اليومية البسيطة. في تلك السنوات شاعت قسوة حيوانية دنيئة سببها الخوف من الموت جوعا. كنت اشعر بأنني مهدد بالتحول الى فأر.
جمعت نقودا من ذلك العمل ودفعتها لمهربي مواشي الشرق البشرية الى مزارع الغرب . كانت هناك طرق للتهريب تختلف أسعارها :سفر جوي بجواز مزور إلا أنها تكلف كثيرا. هناك المشي مع المهرب عبر غابات وأنهار الحدود، وهذه أرخصها . هناك طريق البحر وطريق الشاحنات الذي كنت قد فكرت فيه. رغم انني كنت قلقا بسبب حكاية الجهاز الذي تستخدمه الشرطة في قياس ثاني أوكسيد الكربون في الشاحنات لكشف أنفاس من يختبأون فيها. لكن ليس هذا الجهاز قد دفعني الى التخلي عن فكرة العبور بالشاحنة ، بل حكاية علي الأفغاني و مجزرة شاحنة برلين. كان الأفغاني كنزا من كنوز حكايات التهريب. سكن عشر سنوات في اسطنبول بصورة غير قانونية. عمل في التزوير وبيع المخدرات لينفق مايجمعه على العاهرات الروسيات ورشوة الشرطة. بعضهم سخر مني لتصديقي حكاية شاحنة برلين. في الحقيقة لدي أكثر من دافع الى تصديق مثل هذه الحكايات. فالعالم بالنسبة لي هش جدا ومخيف ولاانساني ، وهو لايحتاج إلا الى رجة صغيرة ليخرج فظاعاته وأنيابه البدائية. بالطبع أنتم تعرفون قصصا تراجيدية كثيرة عن مثل هذه الهجرة ورعبها من وسائل الاعلام التي تركز قبل كل شيء على غرق المهاجرين . وأنا أجد أن مثل هذا الغرق الجماعي هو مشهد سينمائي ممتع شبيه بتايتانيك جديدة لدى الجمهور. فمثلا لا ينقل الاعلام اخبار قصص الكوميديا السوداء ومثلما لاتصلكم أخبار ماتفعله الجيوش الأوربية الديمقراطية حين تمسك ليلا ، في غابة عملاقة ، مجموعة من البشر المذعورين ، والمنقوعين بالمطر والجوع والبرد. شاهدت كيف ضرب جنود بلغار شابا باكستانيا بالمسحاة حتى فقده الوعي . ثم طلبوا منا جميعا ان ننزل في ذاك الزمهرير الى نهر شبه منجمد . حصل هذا قبل أن يسلمونا الى الجيش التركي.
يقول علي الأفغاني إنهم كانوا خمسة وثلاثون شابا عراقيا . شبان حالمون أتفقوا مع مهرب تركي لنقلهم بشاحنة مغلقة لتصدير الفواكه المعلبة من أسطنبول حتى برلين. كان الأتفاق لهذه الصورة : يدفع كل واحد أربعة الاف دولار، على رحلة أمدها سبعة أيام فقط . والشاحنة تسير في الليل وتتوقف في النهار عند مدن حدودية صغيرة. وكل من يريد أن يتغوط عليه أن يفعل ذلك في النهار ،أما التبول فمسموح به أثناء الليل داخل الشاحنة في قناني الماء الفارغة. ممنوع حمل أي هاتف خلوي أثناء الرحلة. على الجميع أن يلتزم الهدوء وأن يكتم أنفاسه أثناء التوقف في نقطة حدودية او أشارة مرورية وأن لايحصل أبدا أي شجار . لكن ماكان يقلق مجموعة شاحنة برلين الحكاية التي تشرتها قبل أيام الصحف التركية حول مجموعة من الأفغان الذي دفعوا لمهرب أيراني مبالغ كبيرة لنقلهم في شاحنة الى اليونان. سارت الشاحنة بهم ليلة بكاملها . وقبل بزوغ الفجر توقفت الشاحنة ، وأمرهم المهرب بالنزول بهدوء وأعلمهم أنهم قد وصلوا الى مدينة يونانية حدودية. نزل الأفغان وهم يحضنون حقائبهم بأحاسيس هي مزيج من الفرح والخوف ، وجلسوا تحت شجرة عملاقة. قال المهرب انها غابة يونانية صغيرة ، وكل ماعليهم الأنتظار حتى الصباح ، وحين تصل الشرطة اليونانية ، عليهم ان يتقدموا فورا بطلب اللجوء. في الصباح نشرت الصحف صورة الأفغان الجالسين في حديقة عامة وسط أسطنبول. لقد دارت بهم الشاحنة طوال الليل في شوارع أسطنبول ولم تخرج حتى الى ضواحي المدينة. ومثل جميع قصص النصب والاحتيال ، أختفى المهرب وشاحنته وزج الأفغان في سجن الترحيل.
لكن جماعة شاحنة برلين لم يكن أمامها خيار آخر سوى المغامرة. فالخوف من حكايات النصب، يعني الشلل وضياع الأمل والعودة الى بلد يخنقه الجوع والظلم. ثم أنهم أعتمدوا على سمعة المهرب الشهير . قالوا لهم انه أفضل المهربين في تركيا كلها و أشدهم نزاهة. و لغايتها لم يلق الفشل كما لم يخدع أحدا. إنه رجل ملتزم بدينه، و حج ثلاث مرات ، لهذا كانوا يلقبونه بالحاج ابراهيم.
انطلقت شاحنة الحاج أبراهيم من اسطنبول ليلا، بعد أن تزود (الزبائن )بقناني الماء والطعام. كان الظلام و الحر شديدين داخل الشاحنة ،وكان الهواء يتسرب الى الداخل من ثقوب صغيرة غير مرئية. كان الخوف من نفاد الهواء، يدفع الشبان للتنفس بسرعة مثل من يستعد للغطس في نهر. بعد خمس ساعات من سير الشاحنة، كانت رائحة الأجساد والجوارب المتعفنة والطعام المتبل الذي كان يلتهمونه في الظلام، يضاعف الإختناق . لكن الليلة الأولى كانت ناجحة. في الصباح توقفت الشاحنة في مرآب في قرية حدودية ،و فتح باب الشاحنة الخلفي، تنفس الزبائن وتجدد الأمل في صدورهم. كان المرآب عبارة عن زريبة سابقة. وأشرف على عملية التغوط شابين. لم يكن مسموحا حتى النزول من الشاحنة الى الزريبة، ولا السؤال عن مكان القرية وفي أي بلد هي . أحد الشابين يأخذهم حسب الدور الى مرحاض صغير وقذر للغاية في زاوية الزريبة . و الآخر كان يشتري لهم الماء او الطعام ، ويعود في اخر النهار.
في الليلة الثانية كانت هناك سيارة مرسيدس تسير على مسافة بعيدة من شاحنة برلين لتأمين الطريق وتزويد سائق الشاحنة بالمعلومات. سارت شاحنة برلين طوال الليلة الثانية بسلام ولم تتوقف الا ثلاث مرات لوقت بالغ القصر . في النهار ادخلوهم هذه المرة مرآبا كبيرا ييه شاحنات اخرى. وكان سهلا سماع ضوضاء المدينة.
سيارة جيب عسكرية كانت تسير أمام الشاحنة في الليلة الثالثة لتأمين الطريق. لم تقطع شاحنة برلين في رحلتها الليلية هذه المرة ،سوى خمس ساعات، فقد توقفت فجأة و أستدارت الشاحنة وعادت أدراجها بسرعة جنونية. أنقبضت قلوب الشبان في ظلام الشاحنة وأحسوا بارتباك سائق الشاحنة من خلال قيادته الجنونية. اخذوا يهمهون وقرأ بعضهم الأدعية والآيات القرآنية في سره أو بصوت خافت. كان هناك شاب صغير أخذ يعيد قراءة آية الكرسي بصوت مسموع، كان صوته جميلا خدشته نبرة بكاء وضاعف من هلع المسافرين. سارت الشاحنة بتلك السرعة مايقارب الساعة ثم عادت وتوقفت من جديد. بعدها بربع ساعة إستأنفت الرحلة بسرعة متوسطة ، لكن اتجاه السير التبس على الشبان الذين انقسموا بين مؤيد لفكرة ان الشاحنة تعود أدراجها وبين من يعتقد انها تواصل الرحلة. كان الشبان على إعتقاد بأن مافايات التهريب هي التي توجه سائق الشاحنة عبر الهاتف الخلوي حسب ظروف الطريق ومخاطره مثل دوريات الشرطة. شعر الركاب بان الشاحنة اخذت تسير على طريق ترابي متعرج. توقفت الشاحنة فجأة وأطفأ السائق محرك السيارة وعم صمت مريب وغامض داخل شاحنة برلين. صمت شيطاني سيفرخ معجزة وحكاية لاتصدق.
أنتظر الشبان الخمسة والثلاثون أكثر من ثلاث ساعات في ظلام الشاحنة. كانوا يتهامسون عما حدث . أراد بعضهم التلصص من خلال الثقوب البالغة الصغر قرب باب الشاحنة الخلفي . كانت ساعاتهم اليدوية تشير الى السابعة وعشرة دقائق صباحا. وكان وقت التزود بالماء ، فمازال هناك ما يكفي من الطعام ، لكن الماء ينفد بسرعة ثم أن هناك الحاجة الى التغوط . وهكذا بدأ التذمر . أخذ بعضهم بركل جدران الشاحنة ومناداة من كان خارج الشاحنة. أعترض ثلاثة شبان وطلبوا من البقية الهدوء. كانت رائحة شجار عالقة في ذاك الهواء الشحيح والمكهرب. كان يتحادثون حسب مصدر الصوت. ويرى بعضهم بعضا مجرد ظلال داكنة. وعند منتصف النهار كان الجميع تقريبا يطرق على جدران الشاحنة وبابها الخلفي وهم ينادون ويستغيثون. كان هناك من تغوط في أكياس الطعام. وكانت الرائحة الفظيعة تتراكم داخل الشاحنة مثل طبقات من الحجر، و تشبه أنفاس الشبان مجتمعة كأن وحشا يتنفس بصخب في الظلام. وهزمت الرائحة والخوف أعصاب الجميع. فقد نشب شجار و عراك بالأيدي في الظلام، ثم إتسعت دائرة هذا العراك.وبعدها بساعة واحدة هدأت الحال. فالعطش أعاد الهدوء. وجلسوا يتهامسون ويتكهنون بأصوات خفيضة وكأنهم خلية من النحل . وبين حين وآخر كان أحدهم يطلق شتيمة او يركل جدران الشاحنة. كان أغلب الشبان يحرص في تلك اللحظات على ان يخبأ ماتبقى له من طعام وماء في داخل الحقائب،
رغم الظلام الأسود الذي لم تميز فيه الوجه عن القدم قام هذا وذاك بأفعال لايمليها ما كان يحدث : واحد يربط حذاءه و ثان ينزع ساعته اليدوية ويخبئها في جيبه وثالث يغير قميصه في مثل ذلك الظلام . هكذا هي مخيلة الانسان . تنشط بغرابة في مثل هذه المواقف متحولة الى جرس انذار وحبوب مهلوسة.
في نهار اليوم التالي كانت هناك فوضى عارمة. أراد شبان صغار فيهم مايكفي من الطاقة للتشبث بالحياة ، كسر باب الشاحنة ، وأخرون إستمروا بالصراخ و الطرق على الجدران . واحد توسل وإستغاث من أجل جرعة ماء . أصوات ضراط وشتائم . ايات قرانية وادعية قرأوها بصوت عال. بعضهم أصابه اليأس وجلس يفكر في حياته مثل مريض يحتضر. اما الروا ئح فكانت لاتطاق وكفيلة بإبادة أكثر من سرب واحد من الطيور التي كانت تحلق فوق رؤوسهم . أنا لا أكتب الآن عن تلك الآصوات والروائح التي أطلقت واختفت في دروب الهجرة السرية ،بل عن تلك الصرخة المدوّية الوحشية التي دوّت بغتة في الفوضى. بدت كأنها قوة مجهولة جعلت من صخب الشاحنة وفوضاها طبقة قاسية من الجليد. خيّم صمت كثيف لزج يسمح لك بسماع دقات قلب كل مسافر، كانت صرخة خارجة من كهوف لم تفك أسرارها . بعد سماعهم الصرخة أرادوا تخيّل مصدر هذا الصوت اللانساني ، كما اللاحيواني ، والذي زلزل ظلام الشاحنة.
أخذت الشاحنة تهتز بعنف في مكانها ،وأنداح الصراخ و الرعب من جديد. بدوا أفواها لإنسان عملاق شبت فيه النار . نعم ، بدت أصوات الاستغاثة والوجع تلك مثل حمم البراكين هذه المرة . بدا الأمر كأن قسوة الانسان والحيوان ووحوش الحكايات الخرافية قد تكثفت واخذت تعزف لحنا جحيميا مشتركا.
عثرت الشرطة الصربية بعد أربعة أيام على الشاحنة عند أطراف مدينة حدودية صغيرة تحيط بها الغابات من كل الجهات. كانت الشاحنة داخل حقل مهجور للدواجن. ليس مهما الآن ماحدث للمهربين. فهذه قصص متشابهة. ربما علم المهربون بمراقبة الشرطة لتحركاتهم وارادوا الاختباء لبضعة ايام او لسبب تافه اخر له علاقة بخلافات بين مافايات التهريب حول النقود .
حين فتح رجال الشرطة الباب الخلفي للشاحنة ، نط شاب ملطخ بالدماء من داخل الشاحنة و ركض كالمجنون صوب الغابة . طاردته الشرطة. لكنه توارى في تلك الغابة العملاقة . في الشاحنة كانت هناك أربعة وثلاثون جثة . لم تمزقها السكاكين أو أي سلاح آخر بل كانت أجسادا عملت بها مخالب ومناقير نسور وأنياب تماسيح وأدوات مجهولة أخرى. كانت الشاحنة مليئة بالخراء والبول والدم والأكباد الممزقة والعيون المقلوعة والأحشاء تماما كما لو أن ذئابا جائعة كانت هناك. تحول اربعة وثلاثون شابا الى عجينة كبيرة من اللحم والدم والخراء.
يانكوفتش الشرطي الصربي العجوز لم يصدق أحد روايته ، بل سخروا منه .ومن كان معه هناك لم يدعم شهادته.بل أتفقوا معه فيما يخص ذاك الشاب الملطخ بالدماء والذي هرب الى الغابة.. وكانت الصحف الصربية قد تساءلت عن أسباب أختفاء الشاب لكن الشرطة إدعت بأنه عبر الحدود الى هنغاريا.
في السرير يقول يانكوفيتش لزوجته و هو ينظر الى السقف : لست مجنونا يا أمرأة ... أقول لك للمرة الألف ... ما أن دخل الشاب الى الغابة حتى أخذ يعدو على أربع ثم تحول الى ذئب رمادي قبل ان يختفي فيها...