الأحد، 18 مارس 2012

دماغ مسلوخ


لا أهب حياتي لكل من هب ودب

للواقع

للثرثرة

للعاصفة

للطموح

للكتابة

للدين

لمص دم الآخرين

أهب روحي للوحدة

نبتة في سندانة

....

الانسان والامل

هذه هي شباكنا البالية

نصطاد فيها أوهاما مبتلة

أوهاما من دون زعانف

ولحمها مسموم !

....

تعيش في المخيلة

حاجيات كثيرة

أبرة خياطة الى جوار حيوان خرافي

نهد بحلمة فسفورية فوق عقرب محنّط

شجرة عارية تتكيء على زجاجة كحول

حاجيات كثيرة

لا أذكر من أين ومتى اشتريتها

تتكدس

تلّ

من

الهذيان

....

في الثلاجة جثة دجاجة

اشتريتها البارحة وأنا سكران

نمتُ بعد أن لعنت كل الاشباح التي من حولي

صرخت في وجه التلفزيون

وفي وجه باب الحمام

تقيأت

حضنت مقعد المرحاض مثل أم مقدسة

حلمت انني دجاجة سكرانة من الألم

مذبوحة

وداخل ذهنها، شجرة تطير ...

طفل مذبوح في حقل !

....

مرات ... في أكثر المرات ...

في آخر الليل

أمشي

اظافري كلمات حادة

وحيدا

أخربش في الهواء

ثم أنبش في رأسي

حتى يتدفق الدم

أشرب

وأستريح

...

الفكرة نائمة

قطة كسولة في دماغي

كل يوم أطل عليها

وأقول : غدا أوقظها !

فكرة فارغة

عن

الحياة !

مثل

الحياة ..

....

قتيل آخر

دماغ مسلوخ

يتفسخ

تحت شمس لاهبة

الحشرات الجميلة تشفط فحواه

الحشرات تدغدغ بقايا ذكراه الانسانية

حشرات خلاقة

تنحت من جسد الحقيقة جيفة شاهقة

....

ناموا

انا نائم

هي نائمة

لاتوقظونا

دعونا ننام !

دعونا ننام !

دعونا ننام !

لاتزعقوا من قبوركم


الخميس، 23 سبتمبر 2010

أغنية الماعز



كان الناس ينتظرون في طوابير، ليرووا حكاياتهم. تدخلت الشرطة لتنظيم الأمور. أغلق الشارع العام المحاذي لمبنى الأذاعة أمام حركة السيارات. وهناك انتشر النشالون وباعة السجائر المتجولون. وكانت شديدة المخاوف ُمن أن يندس إرهابي بين الناس ويحيل كل هذه الحكايات إلى عجينة من اللحم والنار.

تأسس راديو ( الذاكرة ) بعد سقوط الدكتاتور. ومنذ البدء أخذت الإدارة بنهج وثائقي لبرامجها. لا نشرة أخبار ولا أغان، مجرد تقارير وثائقية وبرامج تنبش في ماضي البلاد. وجاءت الراديو شهرة كبيرة بعد الإعلان عن خبر تسجيل برنامج جديد بعنوان ( حكاياتهم بأصواتهم). وتوافدت الحشود على بناية الإذاعة من كل أنحاء البلاد. كانت الفكرة بسيطة: اختيار حكايات و تسجيلها بأصوات أصحابها ومن دون ذكر للأسماء الحقيقية ثم يختار المستمعون أفضل ثلاث حكايات تنتظرها جائزة مالية ثمينة.

أفلحت ُ في ملء استمارة الترشيح والدخول إلى مبنى الإذاعة بعد مشقة كبيرة. ولأكثر من من مرة نشب الشجار بسبب الزحام. عجائز وشبان ومراهقون، موظفون وطلبة عاطلون عن العمل، جاءوا كلهم كي يرووا حكاياتهم. انتظرنا تحت المطر أكثر من 4 ساعات. بعضهم كان كتوما. آخرون كانوا يتفاخرون بحكاياتهم. شاهدت رجلا من دون ذراعين ولحيته تكاد تصل إلى سرته. كان غارقا في التفكير وكأنه تمثال يوناني متآكل. لاحظت قلق الشاب الوسيم الذي كان معه. سمعت من شيوعي عذِّبوه في السبعينيات في سجون البعث، بأن لدى الرجل الملتحي حكاية مرشحة للفوز إلا أنه لم يأت من أجل الجائزة. إنه مجرد مجنون لكن مرافقه، وهو من أقربائه، يطمع بالجائزة. كان ذو اللحية الطويلة معلما. ذهب إلى الشرطة يوما للإبلاغ عن جاره الذي كان يتاجر بالآثار المسروقة من المتحف. شكرته الشرطة على تعاونه. وبهذه الصورة أراح المعلم ضميره وعاد إلى مدرسته. رفعت الشرطة تقريرا لوزارة الدفاع مفاده أن بيت هذا المعلم هو وكر لتنظيم (القاعدة). كانت الشرطة شريكة لمهرب الآثار. أرسلت وزارة الدفاع تقريرها إلى الجيش الأمريكي الذي حلقت مروحياته في سماء بغداد و قصفت بيت المعلم. قتلت زوجته وأولاه الأربعة و أمه العجوز. المعلم نجا من الموت. لكن دماغه تعطل وفقد ذراعيه.

أما أنا فكانت تغلي في ذاكرتي أكثر من عشرين حكاية عن سنوات أسري الطويلة في إيران. كنت واثقا من أن واحدة على الأقل ستكون قنبلة المسابقة حقا.

أدخلوا المجموعة الأولى ثم أعلنوا للحشود في الخارج عن انتهاء استقبال الطلبات في ذلك اليوم. كنا أكثر من 70 شخصا. أجلسونا في قاعة فسيحة تشبه مطاعم الطلبة في الكليات. أخبرنا رجل يرتدي بدلة أنيقة بأننا سنستمع أولا إلى حكايتين كي نتعرف على طبيعة البرنامج. كما تكلم عن قانونية العقد الذي سنوقعه مع الإذاعة.

خفتت الأضاءة تدريجيا وحل الصمت في القاعة وكأننا في صالة سينما. أشعل معظم المشاركين سجائرهم. غرقنا في سحابة كثيفة من الدخان وأخذنا نستمع إلى قصة امرأة شابة. كان صوتها يصلنا صافيا من كل أركان القاعة. استمعنا إلى حكاية زوجها الشرطي الذي اختطفته جماعة إسلامية لمدة طويلة، وكيف أرجع القتلة جثته متعفنة ومن دون رأس أثناء الاقتتال الطائفي. وحين أضيئت القاعة من جديد دبت الفوضى. كان الجميع يتحدثون سوية مثل حشد من الزنابير. هزأ كثيرون من حكاية المرأة. ادعوا أنهم يملكون من الحكايات ماهو أغرب وأقسى وأكثر جنونا. لمحت عجوزا شارفت على التسعين تهز يدها ساخرة وهي تمتم: هي هاي سالفة .. سالفتي لو حكيتها على الصخر.. .كان تفطر من القهر ...

عاد الرجل الأنيق ودعا المشاركين إلى الهدوء. أوضح بكلمات بسيطة بأن أفضل القصص لاتعني الأكثر رعبا أو حزنا، المهم هو الصدق وأسلوب الحكي ثم قال بأنه ليس من الضروري أن تكون القصص عن الحرب والقتل. أنا انزعجت من هذا الكلام. وما لاحظته أن غالبية المشاركين لم تكترث لأقوال هذا الرجل. همس في أذني رجل بحجم الفيل: ضراط إللي يقوله هذا أبو رباط... السالفة هيّه سالفة ... لو زينة لو ضراط ...

خفتت الإضاءة من جديد. ورحنا نصغي للحكاية الثانية :

وجدوها تطعمني الخراء. طوال أسبوع وهي تخلطه لي مع الرز والبطاطا المهروسة والحساء. كنت طفلا شاحبا في الثالثة من العمر. هددها أبي بالطلاق لكنها لم تكترث. تحجر قلبها إلى الأبد. لم تغفر لي فعلتي أبدا، ولا أنا نسيت قسوتها. عندما ماتت بسرطان الرحم كانت أعاصير الحياة قد حملتني بعيدا جدا. هربت بعد حادثة البراميل من البلاد ذليلا، مكسورا، مشدوها من شدة الفزع. في الليل ودعت أبي. سار معي إلى المقبرة. قرأنا سورة الفاتحة عند قبر عمي. تعانقنا ثم دس في يدي رزمة من النقود. قبلت يده واختفيت.

كنا نعيش في حي فقير في كركوك. لم تكن في الحي مجار للمياه. حفر الناس في بيوتهم بالوعة كلفتها ثلاثة دنانير. كان الكردي نوزاد، بائع الخضروات، هو المختص الوحيد في الحي في حفر بالوعة الخراء تلك. وحين مات نوزاد تولى ابنه مصطفى العمل. عثروا على نوزاد متفحما في دكانه بعد أن شب الحريق فيه ليلا. لا أحد يعرف ما الذي كان يفعله نوزاد في تلك الليلة. زعم بعضهم أنه كان يدخن الحشيش. أبي لم يصدق هذا الكلام. ولكل أشكال المصائب كانت هناك حكمته الأثيرة ( كل شئ مكتوب علينا في هذه الدنيا الفانية ). وهكذا صدقت في طفولتي بأن ( حياتنا ) مركونة في الكتب المدرسية ودكان بائع الجرائد. أراد الأب إنقاذ طفولتي بما يملكه من نقاء ومحبة. كان ممتنا من الناس والحياة بطريقة تحيرني لغاية اليوم. كان مثل قديس في مسلخ بشري. كانت الكوارث تقصفنا مرة كل عامين. إلا أن الأب لم يرد أن يصدق بأن هناك مثل هذه اللعنة الغامضة التي يأتي الزمن بها. ربما ردها إلى القدر المكتوب. كنا عرضة للقصف من كل الجهات - من المجهول، من الواقع، من الله، من الناس وحتى الموتى كانوا يقصفوننا بالعذاب. حاول أبي دفن جريمتي بشتى السبل. على الأقل شطبها من ذاكرة أمي. لكنه فشل. استسلم أخيرا. وترك المهمة لجرّافة الزمن ، فعلّها تردم الكارثة.

ربما أنا أصغر قاتل في العالم. قاتل لايتذكر شيئا من جريمته التي لم تكن لدي وعلى الأقل، سوى حكاية. مجرد حكاية لتسلية الناس في كل وقت. و ما لاحظته أن كل واحد كان يكتب ويلحن وينشد حكاية جريمتي على هواه. آنذاك لم يكن أبي يعمل في صناعة الطرشي. كان سائق دبابة. وكانت الحرب في عامها الأول. وكانت أمي تلح على أبي كي تنجب طفلا ثالثا. كان يرفض بسبب الحرب التي أفزعته. أحوالنا كانت ماشية : يرسل أبي كل شهر ما يكفي للأكل واللبس وإيجار البيت. وكانت أمي تقضي وقتها إما في النوم أو في زيارة زوجة عمي، للحديث عن أسعار الأقمشة ورعونة الرجال.

في الصيف تنتقل أمي إلى منطقة الأحلام. لا تسمع ولا تتكلم ولا حتى تبصر. كان القيظ يذيب روحها. في كل ظهيرة تستحم ثم تنام في غرفتها عارية. مثل حورية ميتة. و حين يقدم الليل تستعيد شيئا من الحيوية تماما وكأنها أفاقت من غيبوبة. تشاهد المسلسل الدرامي في التلفزيون و برنامج تقليد الرئيس أنواط الشجاعة للجنود الأبطال. وتفكر عسى أن يظهر أبي بينهم.

في ظهيرة أحد الأيام غفت أمي فاتحة ساقيها وذراعيها لهواء المروحة السقفية. تسللنا أنا وأخي الذي يصغرني بعام إلى باحة البيت. لم يكن في الباحة سوى شجرة تين يتيمة وبالوعة الخراء تلك. أذكر أن أمي كانت تبكي تحت شجرة التين كلما مات لنا قريب أو نزلت علينا مصيبة. كانت فوهة البالوعة مغطاة بصينية طعام قديمة مسنودة بحجر كبير. كنا نزيحه، أنا وأخي، بصعوبة. ثم نبدأ برمي الحصى في البالوعة. كانت لعبتنا المفضلة. جارتنا أم علاء عملت لنا زوارق ورقية كنا نتركها على سطح بحيرة الخراء.

قالوا إني دفعت أخي في البالوعة ثم هربت إلى سطح البيت مختبأ في قفص الدجاج. ولما كبرت سألتهم: ربما سقط، وأنا هربت بسبب الخوف ؟ قالوا: أنت أعترفت بنفسك. ربما حققوا معي مثل شرطة الدكتاتور. أنا لا أذكر أي شيء. لكنهم يقولون ويحكون، وكأنهم يتمتعون بمشاهدة أحد الإفلام. كان الجيران كلهم قد شاركوا في كرنفال جحيم البالوعة. لم يعثروا على تلك السيارة التي كانت تأتي مرة في الشهر وتفرغ بالوعات الحي. استعانوا بكل شئ. بالقدور والآواني الأخرى وبدلو كبير لتفريغ الخراء من البالوعة. كانت عملية شاقة و مقززة وكأنه مشهد تعذيب بالحركة البطيئة. كان القيظ و الروائح الكريهة يضاعف من التعب وهول الصدمة. وقبل أن تغرب الشمس، أخرجوه، طفلا كفنه الخراء.

تأخر أبي في العودة من الجبهة. كتب عمي رسالة له ثم تكفل بمراسيم دفن أخي. دفناه في مقبرة الأطفال على التل. ربما هي أجمل مقبرة في العالم. في الربيع كانت تنبت هناك أزهار برية من كل لون وشكل. وتبدو المقبرة من بعيد وكأنها شجرة عملاقة ملونة. مقبرة يفوح عطرها بقوة و ينتشر إلى عشرة كيلو أمتار. بعدها بأسبوع دفعت جارتنا أم علاء الباب وشاهدت أمي. كانت في ذهول من شدة الحزن. وضعت الخراء في طاسة صغيرة. و أخذت ببطء شديد تخلط الخراء بملعقة من البلاستيك، بالطعام، و تملأ به فمي ودموعها تسيل...

أرسلني أبي إلى عمي كي أعيش معه. وهكذا أصبحت لاجئا من صنف آخر. كنت أحل ضيفا على بيتنا كل يوم جمعة. تصحبني زوجة عمي كي ترقب أمي. صرت مثل الكرة التي تتقاذفها الأقدام. هكذا مرت ست سنوات وانا أسعى إلى أن أفقه مايحدث حولي. كان علي أن أتعلم ما تعنيه أحاسيسهم وكلماتهم وسلسلة جمر في رقبتي. كنت أحبو فوق بساط من السكاكين. وكانت البالوعة فزاعة طفولتي. سمعت في أكثر من مناسبة بأن الحياة تتقدم، تسير، تبحر، وربما تزحف. حياتنا كانت تتفجر مثل المفرقعات النارية. وتتناثر في سماء الله. كاتب الأقدار ومدفع القصف العظيم. قضيت سنوات طفولتي ومراهقتي وأنا أراقب الجميع مثل قناص يختبئ في العتمة. أراقب وأرمي. كنت أطلق على كوابيس حياتي كوابيس أخرى - كوابيسي المتخيلة. ابتكرت صورا ذهنية لتعذيب أمي والآخرين. ورسمت في دفتر مدرسي شاحنات عملاقة تسحق روؤس الأطفال. مازلت أذكر صورة الرئيس المطبوعة على غلاف الدفتر. ارتدى فيها بدلة عسكرية وهو يبتسم. وقد كتب أسفل الصورة : ( القلم والبندقية فوهة واحدة )...

كانت هناك عربة نفط يجرها حمار. تأتي إلى أزقة الحي شتاء. كان الأطفال يتبعون صاحب العربة، منتظرين أن ينتصب زب الحمار، المخيف. كنت أغمض عيني. وأتخيل زب الحمار، الغليظ والأسود، يدخل من أذن أمي اليمنى ليخرج من اليسرى. وهي تصرخ وتستغيث من شدة الوجع.

قبل أن تنتهي الحرب بعام ، فقد أبي ساقه اليسرى وخصيتيه. وهذه الحال أرغمت أمي على أن أعود إلى البيت. أبي قرر أن يعود إلى مهنة أبيه وأجداده : صناعة الطرشي. يقولون إن جدي كان أشهر بائع طرشي في مدينة النجف. الملك نفسه، زاره ثلاث مرات. عدت إلى البيت وصرت ساق أبي وذراعيه وخادمه المطيع. وكنت سعيدا، فأبي معجزة من الطيبة. رغم كل ما عاناه في حياته. ظل مخلصا لروحه. التي لم يشوهها الألم. ركّب ساقا صناعية وضاعف من طاقة الحب. كان يدلل أمي ويغمرها بالهدايا- قلادات ذهب وخواتم وألبسة داخلية مطرزة بالورود.

قام أبي بتبليط باحة البيت وعمل غطاء كونكريتي لفوهة البالوعة. لم تبق سوى فسحة لشجرة التين التي أماتتها المياه المخمرة للطرشي. تحتها بكت أمي آخر مرة حين بلغت السادسة عشرة من العمر. قامت الحكومة في بغداد بشق طريق للخط السريع وأزالت المقبرة القديمة. كان قبر والدها هناك. و استمر زمنا طويلا حزنُنا على ضياع عظام الجد.

كانت الباحة مليئة ببرامل التخمير البلاستيكية. وأكوام من شوالات الخيار والباذنجان والفلفل الأخضر والأحمر والزيتون واللهانة والقرنابيط. و أكياس الملح والسكر والبهارات وقناني الخل وعلب الدبس. كانت هناك قدور طبخ كبيرة. الماء يغلي فيها طوال الوقت. نضيف إليها البهارات ثم خيار الماء والباذنجان والقرنابيط واللهانة والجزر. لم يكن أبي ماهرا كأبيه وجدّه. وراح يجرب طرقا جديدة. كان قد قضى شطرا كبيرا من حياته في الدبابة. نسي الكثير من الوصفات السرية لعمل الطرشي. أضاعت الدبابة عليه زبّه ومهنة أسلافه.

أجلس قبالة أمي ساعات ونحن نقطع الباذنجان أو نحشو الخيار بالثوم أو الكرفس. كان لسانها، مسموما مثل أفعى. ولم يعد الصيف يؤلمها. تحولت إلى بقرة سمينة حرقتها الشمس. سليطة اللسان وتدخن بإفراط. نبتت في قلبها أعشاب مسمومة. كان الناس يرثون لحالها بكلمات مسمومة أيضا: المسكينة.. لا زب ولا أولاد ... بس غراب البين. الغراب هو أنا. و معه كل رموز الشؤم. كان أبي مشغولا طوال الوقت بأمور الحسابات والتعامل مع الدكاكين في السوق ونقل البراميل بسيارة الشحن القديمة. ينهار أبي من التعب بعد مغيب الشمس. يتعشى ويصلي ويروي لنا مشاكل الطرشي. ينزع ساقه الاصطناعية. ويدخل السرير ليدغدغ إمرأته الشمطاء بأصابعه.

حين أندلعت حرب الخليج الثانية كان علي الالتحاق بخدمة الجيش. جلس أبي وعمي يتشاوران في أمور خدمتي العسكرية. لم يشاهد عمي أهوال جبهات الحرب الأولى. كان يعمل في مديرية الأمن في مركز المدينة. اتخذ أبي قراره : لن أعطيه للموت. كيف لهم أن يقتلوا ابني الوحيد . تشاجر عمي معه. شرح له موقفه من دائرته الأمنية. ابن أخيه هارب من خدمة العلم ( تريدهم يعدمونا أحنا والنسوان ؟ ). أصر أبي على موقفه. هددنا عمي بأنه سيلقي القبض بنفسه علي إن لم ألتحق بالجيش. لكن أبي طرده من البيت. وقال له ( اسمع.. صحيح أنا رجل مسالم .. لكن هذا ابني... قطعة من جسدي .. إن فعلت ذلك ... سأذبحك من الوريد إلى الوريد...). كان عمي سكرانا ليلتها. و هائج مثل ثور، غادر وهو يشتم صارخا. قام أبي وصلى ركعتين. وسرعان ما استعاد هدوءه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... إنه أخي ... مجرد كلام سكر .. أنا أعرفه ... قلبه أبيض ...

بقيت سجين البيت ثلاثة أشهر. كانت الشرطة العسكرية وكل أجهزة الأمن تملأ الشوارع. قرر أبي أن لا أعمل في النهار كي لاينتبه إليّ الجيران. أخرج ليلا إلى الباحة مثل اللص وفي يدي فانوس. أجلس قرب شوالات الباذنجان والخيار والفلفل. وأنهمك في العمل والتفكير في حياتي. كنت أخلط العرق بالماء في علبة حليب فارغة لئلا أزعج أبي. أقضي الليل وأنا أسكر والمزة من كل أصناف طرشي سائق الدبابة. يسري الكحول في دمي فأحبو مثل طفل إلى البالوعة. ألصق أذني بالغطاء الكنوكريتي وأصغي. أسمعه يضحك. أغمض عيني. فأتخيل لمس كتفه العاري. جلده ساخن من كثرة اللعب والتعب. لم أعد أذكر وجهه. صورته الفوتوغرافية الوحيدة مع أمي. هي تمنع الكل من الاقتراب منها. تخبئها في دولاب الملابس. تضع الصورة في علبة خشبية صغيرة مرسوم عليها طاووس.

عند ساعات الفجر الأولى ينهض أبي. غالبا ما كان يجدني نائما في مكاني. يضع يده على جبيني. فأفيق من لمسة يده. ( ادخل ابني ... صليلك ركعتين ... وأدعو ربك يوفقك ) لم يكن غافلا عن شربي العرق. لكن الدين لم يكن بالنسبة له أحاديث نبي ولا شريعة ولا محرمات. الدين هو حب الخير، هذا كلامه لكل من يناقشه في مسألة الحلال والحرام وأمور الشريعة. لن أنس أبدا ذلك اليوم الذي انهار فيه باكيا في ساحة اللعب بالكرة. أخاف الأطفال. وأنا خجلت و ارتبكت بسبب بكائه. كان رفاق حزب البعث قد أعدموا ثلاثة شبان كرد قريبا من ساحة الكرة. ربطوهم إلى أعمدة خشبية ورموهم بالرصاص أمام مرأى جميع سكان الحي. قبلها خطبوا من مكبر الصوت: ( هؤلاء الخونة المخربين لايستحقون أن يأكلوا ويشربوا ويتنفسوا من ماء وهواء وخيرات هذا البلد)، وكعادة رفاق الحزب أخذوا الجثث وتركوا أعمدة الخشب في مكانها كي يتذكر الجميع ما حدث. جاء أبي إلى الساحة لاصطحابي إلى السينما. كان مولعا بالأفلام الهندية. وحين تأمل الهدف الذي ينقصه العارضة الخشبية أدرك أننا أخذنا الأعمدة الثلاثة وعملنا منها عوارض للأهداف. كانت آثار الدم الذي يبس على الخشب. انهار أبي حين سمع أحد الأولاد يقول : عمو .. ناقص عارضة وحدة.. يمكن يعدمون بعد واحد.. وناخذ الخشبة مالته ..

في مساء صيفي قُصِفنا من جديد. طرق عمي الباب بعصبية. كانت أمي تعد النقود وتضعها في زجاجة معجون طماطم فارغة. أنا وأبي كنا نلعب الشطرنج. كان يمكنه أن يغلبني بسهولة. لكنه كان يتسلى بفرحتي وأنا أقتل جنوده أولا. قدمهم وبقية البيادق لي من دون غطاء وكقرابين. أبقى على ملكه ووزيره فقط. ثم أخذ يفتك ببيادقي بوزيره الأسود ويحكم بالموت على ملكي.

خرج أبي للباحة لاستقبال عمي. لفت أمي فوطتها ولحقت به. وقفوا جميعهم قرب البالوعة وراحوا يتناقشون بعصبية لكن بصوت خفيض. راقبتهم من خلف زجاج الشباك. كنت دائخا من سكرة الأمس. انتظرت قدوم الليل لأسكر من جديد. هرولت أمي لجلب شيء من الأغراض أسفل السلم. تعاون أبي وعمي على إفراغ برميل مليء بطرشي القرنابيط. عادت أمي بمطرقة ومسمار. طرح أبي البرميل أرضا، وأخذ، يحدث فيه ثقوبا عشوائية بالمسمار. لم يكن يحمل ساقه الاصطناعية. كان يقفز على ساق واحدة وهو يدور حول البرميل كأنه يلعب أو يرقص. أوقف عمي السيارة أمام باب البيت ونقلوا إليها براميل الطرشي. دخل أبي الغرفة وهو يتصبب عرقا:

- اسمع ابني ... ماكو وقت ... عمك عنده معلومات أن الأمن والحزب راح يفتشون من الفجر كل البيوت... عمك عنده أصدقاء أوفياء بقرية العوران... ابقا لك هناك كم يوم ... منا لمن الأمور تهدأ ...

دخلت البرميل الفارغ. أحكمت أمي غلق الغطاء. وحملني أبي وعمي إلى السيارة.

كان أبي محقا. إنه أخوه ويعرف قلبه. قاد عمي السيارة في الشوراع مثل المجنون لينقذ حياتي. تمكن من الوصول إلى أطراف المدينة بسلام. لكن جميع المعابر المؤدية إلى الأقضية والقرى، كانت تحرسها نقاط تفتيش عسكرية. الحل الوحيد أمامه هو التوجه إلى الطرق المهجورة. اختار طريق مزارع الحنطة شرق المدينة. ربما ذعر عمي أنساه الطرق المناسبة. حتى الطفل في المدينة كان يعرف سلسة التلال الصخرية الوعرة بعد مزارع الحنطة. ربما كانت صور تعذيب الناس في دائرته الأمنية تشتت ذهنه. لعله تخيل جماعته يذيبونه في أحواض حامض الكبريت ( ضابط أمن يهرب ابن أخيه في برميل طرشي) كان يقود السيارة في مزارع الحنطة مسيطرا بالكاد على المقود. المطبات كسرت ضلوعي و الغبار الذي تثيره السيارة يدخل من الثقوب في البرميل بدل الهواء. كانت رائحة البرميل مثل جيفة القطط الميتة في مزبلة الحي. هل كان عمي يقلع الأظافر ويفقأ العيون ويحرق الجلود بمكواة في أقبيه دائرة الامن؟ ! ربما قادته أرواح المعذبين الى الهاوية، ربما هي روحي الشريرة. ولعلها الروح التي كتبت كل شئ ، فان ، غامض، في هذه الدنيا الزائلة.

سبعة براميل تقبع في ظلام أسفل المنحدر مثل حيوانات نائمة. انقلبت السيارة بعد أن حاول عمي اجتياز التل الصخري الثاني. تدحرجت البراميل مع السيارة إلى الهاوية. قضيت الليل غائبا عن الوعي في جوف البرميل. في ساعات الصباح الأولى. كانت أشعة الشمس تتسرب من ثقوب البرميل، وكأنها خيوط أنفاس ممدودة إلى غريق. كان الدم يملأ فمي، ويداي ترتعشان. كنت فريسة الاثنين: الألم و الرعب. رحت أرقب أشعة الشمس وهي تتشابك بغرابة في البرميل. أردت التخلص من الفوضى التي لحقت بوعيي. شعرت كأني دخنت طنا من الماريخوانا : سمكة تفيق في علبة سردين. دودة ميتة في جوف بئر مهجور. جنين متعفن سُحقت عظامه في رحم على شكل برميل. إلى أن استقرت في ذهني صورة أخي النازل إلى قاع البالوعة وأنا أغوص وراءه.

كان ثغاء الماعز يصلني ضعيفا أول الأمر، وكأنها فرقة إنشاد تتدرب على الغناء. تثغو عنزة ثم أخرى ثم كل العنزات سوية وكأنها وصلت إلى الميلودي المناسب. و قبل أن يصيح الراعي على القطيع، وتنطح عنزة البرميل، تحرك شعاع وسقط في بؤبؤ عيني. تبولت على نفسي في جوف البرميل، مشدوها من قسوة العالم الذي سأعود اليه .

هلسنكي 2010