الأربعاء، 5 مارس 2008

أناشيد ضد الله







جعفر المطلبي: ولد في مدينة العمارة. عام 1973: استقال من الحزب الشيوعي وانضم الى الحزب الحاكم، في العام نفسه أنجبت زوجته الولد الثاني. جعفر عازف عود محترف وملحن أناشيد وطنية مشهور. قتل في انتفاضة 1991 في مدينة كركوك.

ـــــــــــــــــــــــ


يمكنني أن أحدثك اليوم عن نهايته. هل تشاهد هذه المرأة العجوز التي تصيح بأسعار السمك: إنها أمي. نحن نبيع السمك منذ ان عدنا الى بغداد ، دعني أساعدها في افراغ صندوق السمك، ثم نذهب الى مقهى قريب ونتحدث
...........

بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية بدأ أبي يشهر إلحاده بطريقة مخجلة . سبب لنا مشاكل عديدة. ذات مساء عاد الى البيت وقميصه ملطخ بالدم. يبدو أنه نزف من أنفه على أثر لكمة من احد الاصدقاء. كانوا يلعبون الدومينو في المقهى، حين شرع أبي في إطلاق أقذر الشتائم على الله والنبي. كان يبتكرها ويلحنها اثناء اللعب، كما تعرف كان من أشهر الملحنين. صفر أبي في البدء بلحن مبتكر على الطريقة العسكرية، ثم أضاف شتيمة جديدة: مسمار في خصوة أخت الله !

كثيرون انفجروا بالضحك إثر سماعهم ما إبتكرته مخيلة أبي من شتائم، لكنهم سرعان ما يهربون منه مستغفرين ربهم. بعضهم لم يطق لقاءه في الشارع . أخبره احدهم ذات يوم ممازحا أنه يتمنى أن يدعسه بشاحنة محملة بالفولاذ، لكن الجميع كانوا يخشون صلته بالحكومة. كتب أبي في اليوم التالي تقريرا لمقر الحزب عن ابو علاء الذي لكمه، وبعدها بيومين اختفى أبو علاء. كنا نعيش في حي إسمه القادسية الثانية ، وهو عبارة عن بيوت وزعتها الحكومة على نواب الضباط في الجيش، والآخرين القادمين من مدن الجنوب والوسط، وعوائل الاكراد الذين كانوا يعملون مع السلطة. كنا العائلة الوحيدة في الحي التي تعيش بطريقة مختلفة. فكل العوائل تعيش على رواتب الجيش والحزب والأمن إلا نحن. فقد كنا نعيش على الحان أبي للاناشيد الوطنية. كان الأب أكبر منزلة من المختار وعضو الفرقة الحزبية، وكان الرئيس نفسه قد قلده أوسمة الشجاعة لأكثر من مرة على أناشيده عن الحرب. لقد ظلت عالقة في ذاكرة الشعب حتى يومنا هذا. أسمع خويه، سأختصر لك السالفة، بعد انتهاء الحرب بعام، تعرض أبي الى ما تسمونه في الجرائد بالنضوب الابداعي، لم يتمكن من وضع لحن جديد للقصائد الكثيرة التي كانت تصله من شعراء مشهورين تتغنى بعظمة الرئيس. مرت شهور، ثم مر عام، وهو عاجز عن وضع لحن جديد واحد. هل تعرف مالذي فعله خلال تلك الفترة، أخذ يكتب قصائد فسق وكفر قصيرة بنفسه، وراح يلحنها. في مساء شتوي دافئ، كنا نشاهد التلفزيون حين وصلنا صوت ابي وهو يغني لحنه الجديد عن نساء النبي وشبقهن. فجأة نط أخي الكبير. أخرج من دولاب الملابس مسدس أبي، وركب فوق صدره وهو يضع المسدس في فمه. كاد أن يقتله لولا أمي التي شقت ثوبها معرّية صدرها وهي تصرخ . تسمّر أخي للحظات وهو يحدق في ثديي أمي الضخمتين اللتين تدلتا فوق بطنها مثل حيوان أفرغت منه أحشاؤه. كانت هذه هي المرة الاولى التي نشاهد فيها صدر أمي ونحن في ذلك السن. دخلتُ الى المرحاض، وفرّ أخي من مشهد الأم الى خارج البيت. كانت أميّة، لكنها أكثر ذكاء من أبي الذي كانت تعتني به بطريقة غريبة. دللته كما لو كان ابنا. كانت القابلة المأذونة في حي القادسية و قد احبها الناس كثيرا. قرر أبي كتابة تقرير عن أخي الى مقر الحزب. لكنهم لم يستجبوا له. رائحة ابي صارت تفوح في الحي و الوسط الفني . قالوا إن جعفر المطلبي صار مجنونا. و تجنبه أصدقاؤه. سافر إلى بغداد و تقدم بطلب للاذاعة والتلفزيون، كي يعيدوا بث الأناشيد الحربية التي لحنها.. على الاقل نشيد واحد في الأسبوع. رفضوا طلبه واخبروه ان اناشيده غير مناسبة اليوم، فهم يبثون الأناشيد مرتين فقط: أثناء الاحتفال بذكرى إندلاع الحرب وذكرى توقفها. أراد أبي أن يستعيد ماضيه وشهرته بكل وسيلة. حاول مقابلة الرئيس لكنه فشل، تقدم بطلب الى دائرة السينما والمسرح لعمل فلم وثائقي عن اناشيده والحانه، لكن طلبه قوبل بالاهمال ايضا. اثناء كل هذه المحاولات كان قد أنتهى من وضع عشرة ألحان لقصائد في شتم الله والوجود، كما كانت هناك أغنية جميلة عن الخلفاء الأربعة. أدركنا انه قد جن فعلا، حين أخذ يتردد على الأستوديوهات، في محاولة منه لتسجيل أناشيد الكفر بصوته. بالطبع قوبل طلبه بالرفض القاطع، وبعضهم طرده وهدده بالقتل. اخيرا قرر ابي ان يقوم بتسجيل أناشيده على شريط في البيت. وضع جهاز التسجيل امامه وأخذ ينشد ويعزف على آلة العود. كانت نسخة صوتية رديئة بالطبع، لكنها كانت مفهومة. أسمعها إيانا عند فطور الصباح، كنا نخشى ان يعرف الناس بأمر هذا الشريط ، أردنا الحصول عليه وإتلافه بأية طريقة، لكنه لم يكن يتركه للحظة يفارق جيب معطفه، وحين ينام كان يدس الشريط في جيب عملها في الوسادة.

لا داع اليوم كي نخبيء هذه النسخة، فالآخرون بحاجة اليها، فالله تقدم الآن اكثر من اللازم، سوية مع القتلة واللصوص. قد تكون ردة فعل الشارع هستيرية. لكن دعنا نطلق رصاصة في الهواء. تفضل، أنت صحفي، ويمكنك أن تفيد وتستفيد منها. عرض علي مغني شاب أن يقوم بإعادة تسجيلها وغنائها في استوديوهات حديثة، لكني رفضت. يجب ان تبقى هذه الألحان كما سجلها ابي بنفسه كدليل على حكايته، يمكن نسخها فقط، الناس ينسون بسرعة حكايات هذا الواقع. حين ترويها لهم بعد زمن، يظنون أنها حكايات من نسج الخيال. خذ مثلا، جارنا في السوق، أبو صادق بائع البصل، حين يروي اليوم حكايته عن معركة نهر جاسم مع الايرانين، تبدو حكايته وكأنها فلم رعب هوليودي من نسج خياله.


هرب جيش الحكومة ودخلت ميليشات البيشمركة الكردية الى كركوك، استقبل أهل المدينة الانتفاضة بفرح كبير. كانت هناك فوضى عارمة ورصاص وجثث ودبكات واغان في كل مكان. لم نتمكن نحن من الهرب. كان المنتفضون قد أحرقوا بيوت كل أحياء الحكومة ومنتسبي الحزب وقتلوا ومثلوا بجثث البعثيين والشرطة والأمن. لم نتمكن من الهرب وحوصرنا في البيت. اقتحمت مجموعة من الشبان الباب المحصّن بمكتبة أبي، أخرجونا للشارع لتفيذ حكم الاعدام. كانت امي تتضرع وتتوسل اليهم، لكنها لم تشق ثوبها هذه المرة. ماذا ... أبي ... لا، لا، أبي لم يكن معنا. قبل الانتفاضة بأشهر، أصبح مجنون المدينة المعروف. كان يطوف الشوارع وهو ينشد ضد الله حاملا عوده الذي لم يبق فيه وتر واحد. كانت النار قد شبّت في بيتنا، سقطت أمي فاقدة الوعي ونحن نستند الى جدار البيت الخارجي. وصلت أم طارق جارتنا الكردية في اللحظة الأخيرة وهي تصرخ بوجه الشبان وتحدثهم بلغتهم ثم راحت تتوسل إليهم أن يطلقوا سراحنا. أخبرتهم عن كرم وطيبة أمي ومساعدتها للنساء الكرديات في إنجاب الأطفال وسهرها على النساء الحوامل؛ أخبرتهم عن خبز العباس الذي كانت توزعه امي على الجيران، وعن شجاعة أخي الكبير، وبأنه كان من أعز أصدقاء ابنها الذي استشهد مع قوات البيشمركة اثناء حملة الأنفال، وهو الذي ساعد أبنها الشهيد في الهروب من كركوك ( هنا كذبت) ؛ وبأنني ولد طيب ومسالم ، لا أهش ولا أنش، وختمت دفاعها بنبرة غاضبة: لا ذنب لهم بما كان يفعله جعفر المطلبي القواد، ثم بصقت على الأرض. دخلنا بيت أم طارق ولم نخرج منه الى ان دخلت قوات الحرس الجمهوري للمدينة وإنسحاب ميليشيات البيشمركة وهروب أغلب المنتفضين مع تلك الميلشيات.

عثرنا أخيرا على أبي من دون رأس، وهو مربوط الى جرار زراعي بحبل غليظ. كان قد سُحل لنهار كامل في المدينة، وقد مثل بجثته بطريقة لايمكنك تخيلها. كان أبي ساعة محاولة اعدامنا ، قريب من مقر الفرقة الحزيبة. حيث كانت جثث أعضاء الحزب تملأ ساحة المقر. دخل ابي المقر الفارغ ، واتجه الى غرفة الأعلام ، كان ابي يعرف تلك الغرفة جيدا. من تلك الغرفة كانت تبث أناشيده الحماسية من خلال مكبرات الصوت في سطح المقر اثناء حربنا الاولى، ومن هذه المكبرات أيضا، كان يتحدث أعضاء الحزب للجمهور حين كان يتم إعدام أحد الشبان الهاربين من الجيش أو المتهمين بمساعدة ميليشيات البيشمركة. وضع أبي الشريط في جهاز التسجيل وأخذت مكبرات الصوت تبث اناشيده ضد الله والوجود على مسامع المنتفضين. كان أبي يحضن آلة العود ويبتسم، حين دخل المنتفضون واقتادوه الى الخارج. أستميحك العذر يا صديقي ، هناك تاجر سمك سيجلب اليوم بعض شولات سمك الزوري، على أن اذهب الآن. غدا سأخبرك بسر علاقة أبي مع أم طارق الكردية.


ليست هناك تعليقات: