الأربعاء، 5 مارس 2008

انقاذ الأفغاني







جلبنا معنا جثة أفغانية نصف عارية. سحبتها مع صادق السيد ثلاث ليال مخيفة وقاسية في غابة بدت بلا نهاية أو مخرج. نزع صادق ، قميص الأفغاني الأسود وربطت انا قدميه بأكمام القميص. كانت آخر غابة على الحدود الرومانية الهنغارية. بعد عشرة أمتار تمزق القميص. سحبناه من ذراعيه هذه المرة. كانت الثلوج تهطل بعد ان عبرنا النهر. نسيت كل هذا. ظننت أنني نائم في سجن وحدتي العسكرية من أيام الحرب. حين أفقنا فجرا شاهدنا كلاب الجيش الهنغاري تشم جثة الافغاني .

: أسمك ؟

: سالم حسين

: عمرك ؟

: ثلاثون

ثم اومأت بيدها الى ان أخلع لباسي الداخلي. البارحة أخذوا الخراء ، اليوم يفتشون الجلد. دونت ملاحظة في الأوراق التي امامها ثم حركت أصبعها من أسفل الى أعلى هذه المرة وهي تبتسم. رفعت لباسي الداخلي. بسطت يدها بأتجاه الباب من دون ان تلتفت ألي .ارتديت بقية ملابسي. دخل بعدي صادق السيد ثم شاب نيجيري طويل، أسمه جيمس. كان يرتدي شورتا صيفيا قصيرا طبعت على مؤخرته شمس ضاحكة ، مع قميص خفيف بألوان علم جامايكا ، إحتج على مرافقتنا التي لم تسمح له بالخروج لتدخين سجارة.

لم يبق سوى الباكستاني وعجوز كردي مع زوجته وأبنه. كنا مجموعة نزلاء جدد ، وصلنا هذا الصباح في ساعة مبكرة الى المستشفى برفقة شابة جميلة تدعى آنيس من محطة أستقبال اللاجئين ، هي ألبانية عينت في المحطة بعد ان أقامت فيها خمس سنوات كلاجئة ، تعلمت خلالها اللغة الهنغارية بطلاقة . في يد كل واحد منا علبة للخراء وأنبوب بلاستيكي للبول. نهض الباكستاني و فك حزام بنطاله قليلا وحشر قميصه الرياضي الأحمر، ثم أحكم اغلاق الحزام بشكل مضحك. خرج جيمس النيجيري من غرفة الطبيب منتشيا وهو يشد خيط سرواله الشمسي ، بدا وكأنه خارج للتو من غرفة عاهرة . نوهت آنيس، بأن الممرضة ستأتي بعد قليل لجمع علب الخراء وأنابيب البول، وتمنت ان تمر الأختبارات بسلام. أخبرتنا من دون مقدمات ماحدث للمجموعة التي أتت قبلنا. حدث ذلك قبل شهر. تقول، أنهم كانوا عشرة شبان صوماليين ومعهم طفل صغير. أخذ واحد من المجموعة جميع علب الخراء وملأها بنفسه. اما البقية فملأوا فقط أنابيب البول ، بالتأكيد تمكنوا في المختبر بسهولة من معرفة ان جميع العلب عبأت من خراء شاب واحد. تحجج الصومالين بعد مكاشفتهم بالأمر ، بأنهم لم يجدوا طريقة لملأ العلب، قالوا بأنه لايمكن الحصول على الخراء في المرحاض الغربي بسهولة ، فهو يغطس في الماء ويصعب التقاط عينة منه. لهذا قام أحدهم بالمهمة. تغوط على أرضية الحمام وملأ علب الجميع بسهولة ، بما فيها علبة خراء الطفل .

كنت أنا وصادق السيد قد وصلت بعد الآخرين بثلاثة ايام. اجروا معنا تحقيقا سريعا في مركز الجيش على الحدود ، وفي الصباح أرسلونا الى محطة استقبال اللاجئين في مدينة بكشجابه. لاادري الى اين أخذوا جثة الأفعاني. اخبرونا ان الشرطة ودائرة الهجرة ستحقق معنا مرة أخرى عن التفاصيل بعد الفحوصات الطبية. أدخلونا الى الحجر الصحي في محطة الاستقبال ، وهو مبنى صغير ملحق ببناية المحطة الكبيرة حيث يعيش بقية النزلاء. الهنغار يسمون الحجر الصحي كما في العراق ب ( الكرنتينة ). كانت مزدحمة وقذرة مثل زريبة خنازير. أفغان وعرب وأكراد وباكستانيون وسودانيون وبنغلادشيون وأفارقة وبعض الألبان. تستمر الفحوصات مدة شهر واحد. رعب الكرنتينة بالنسبة للنزلاء الجدد يكمن في نتائج الاختبارات الطبية فهناك من هو مسلول أو اجرب. هؤلاء يرّحلون من الكرنتينة الى مستشفى العزل في أطراف المدينة . يبقون هناك حتى يتم علاجهم. وهذا مايخشاه أغلب النزلاء الجدد. خشيتهم ليست من المرض بل من فترة العلاج التي قد تمتد الى أكثر من عام ونصف. العراقيون والايرانيون سخروا من السل والجرب . فبإعتقادهم كانا يصيبان البنغلادشيين والباكستانيين والأفغان والأفارقة فقط . بالفعل ، أظهرت نتائج الفحوصات صحة ذلك ، فأمراض العراقين او الأيرانين أوالكرد كانت تناسلية ، خاصة السيلان الذي يعالج داخل محطة الاستقبال نفسها. لكن دعونا الآن من كل هذا و لندخل الى صلب الحكاية : موت الأفغاني. لا ، أنا أكذب ، هذه التفاصيل تهمني لكني اضعت الطريق. كان علي أن اتكلم عن تفاصيل الخراء في حكاية منفردة.

عبرنا الحدود الرومانية - الهنغارية برفقة مهرب محترف. أخبرنا عند الفجر أن الضباب بدأت تزداد كثافته ، وعلينا ان نقوم بملازمة بعضنا بعض حتى نصل الى النهر ونعبره الى الأراضي الهنغارية. المهرب غير ملزم بأنتظار من يتوقف عن السير، وسنستمر فيه قبل ان ينقشع الضباب . بذلنا كل الجهد كي نلحق بخطوات المهرب. أقسمت للمحققين ان الأفغاني مات اثناء عبور النهر ، كان مريضا جدا ، غرق بسرعة من دون أن نتمكن من أنقاذه ، لكن التقارير الطبية أثبتت أنه مات مخنوقا. رويت لهم الحكاية كما حدثت في الواقع الضبابي بصدق وأمانة. كان المهرب قد أضاع الطريق ( هذا ما أخبرنا به المهرب) ، فقد أمرنا بالمبيت في الغابة . دخلنا في أكياس النوم ونحن نرتجف من شدة البرد ، يمكنكم سؤال جبميس النيجيري او الباكستاني او العجوز الكردي ، فهم عبروا قبلنا وأخبرونا بما حدث حين ألتقينا بهم في الحجر الصحي . كانت خطة دنيئة ، كان المهرب يعرف أن النهر قد أصبح على مسافة كيلو متر واحد من الغابة ، لكن القارب الذي تركه لنا أحد مساعديه من القرى الرومانية الحدودية، لم يكن يتسع إلا لستة أشخاص ، هكذا كان على المهرب أن يتخلى عن ثلاثة منا . أجزم أنه كان يعرف بمشكلة القارب مسبقا قبل ان تنطلق الرحلة من بوخارست . أنتظر المهرب بعد أن دخلنا في اكياس النوم نصف ساعة تقريبا ، ثم بدأ يتجول بين المجموعة ويرفس بقدمه بخفة كل واحد منا ، وقد أفلحت طريقته هذه ، كنا أنا وصادق والأفغاني قد غرقنا في نوم ثقيل ، اما الآخرون فكان نومهم خفيفا او أنهم لم يناموا من شدة البرد. هكذا تركونا في الغابة نياما. حين أفقنا أدركنا اننا تعرضنا للخداع ، فهذه الحكايات مشهورة في طرق التهريب غير الشرعية باتجاه اوربا . في تلك الدروب المحزنة والمخزية كان يحدث الأفظع. أخذنا نبحث عن النهر كي نعبر الى هنغاريا بأنفسنا . أخذ الله ينفخ الضباب بكثافة . بدا كأنه يفعل ذلك عن عمد. بعدها بساعات وصلنا النهر. كان البرد قد هدّ حيل الأفغاني ولم يكن يقوى على المشي ، سرت الحمى في جسمه بجنون، حملته أنا و صادق الذي احب الافغاني كثيرا. المسكين ، كان قد لازمنا واصبح أخا ورفيقا لنا منذ ان التقينا به أثناء عبور الجبال الأيرانية - التركية . طلب مني صادق أن أكون أول من يعبر ، و أختبر الأمر بنفسي ثم انادي عليهم من الجهة الاخرى واشرح لهم طريق العبور لئلا يتيهوا في الضباب . قال صادق بأنه سيساعد الافغاني بنفسه. رحت أصيح على صادق من الجهة الأخرى وانا ارتعد من شدة البرد. ثم سمعته يقفز في الماء مع الأفغاني. صحت مرشدا إياهم الطريق، بعد قليل سمعتهم يتخبطون بالماء ، صرخ صادق بأن الأفغاني بدأ يغرق ، صحت متوسلا بأن لايتخلى عنه ، كانت الضوضاء المنبعثة من تخبطهم في الماء تتصاعد بسرعة ، وفجاة هدأ كل شيئ ، كنت على وشك القفز الى الماء من جديد كي أساعدهم ، لكنني شاهدت صادق يخرج من الضباب ساحبا خلفه الأفغاني. قال : لقد غرق. لم يختف عن نظري سوى ثلاث دقائق ،حين غطست ، لكنه كان ميتا. أجهش صادق السيد بالبكاء .

مضت على هذه الحادثة ثلاث سنوات ، أنا أعمل الآن في مخيم اللجوء بدل آنيس الألبانية التي عادت الى بلدها ، أعمل مترجما لدائرة الهجرة وأصطحب نزلاء الكرنتينة الجدد الى المستشفى كل صباح. لاشيئ مثيرا في حياتي ، نفس مشاكل الخراء والبول وأعتراض بعضهم على التعري امام الطبيبة. أردت أن انسى الأهل في البلاد ، وانظم ايقاع حياتي مع الايقاع الثقيل لهذه المدينة الحدودية . أزور قبر الأفغاني بين فترة وأخرى ، حيث دفن في مقبرة المدينة القريبة من محطة استقبال اللاجئين ، كان قبره الوحيد من دون علامة الصليب. وكان زوار المقبرة يطلون عليه بسبب الفضول ، لمشاهدة الآية القرآنية المنقوشة على شاهدة قبره . أشرب في البار كل مساء ، اضاجع عجوزا تحبني كثيرا في دكان الزهور. اقرأ الصحف في الانترنيت. مرات أبكي طوال الليل. لكنني لم اجرؤ حتى الآن على زيارة السجن الذي ينزل فيه صادق السيد في العاصمة بودابست. رغم أنني افكر هذه الايام بزيارته . ليته فقط يخبرني لماذا خنق الأفغاني في النهر.

حسنا ، لاأدري ياصادق مالذي كنت تفكر به ، لكنك لم تتركه يغرق بنفسه !



هلسنكي ـ 2006

ليست هناك تعليقات: