الثلاثاء، 4 مارس 2008

كلب جياكوتي





علبة الشتائم التافهة في جيبي. في كل خطوة أكتب اقصوصة منحطة عن اسمي. اقصوصة خاوية تشبه انفاسي الكريهة كلما فسد الحلم في قلبي. وهذا كذب ايضا. فأنا أكتب اقصوصة لسان مقسوم الى نصفين . هي لا تشبه رائحة الورم الذي ينبض بل تشبه مسامير التابوت الباردة. لكنني فكرت ان اتوقف قليلا عن كتابة هذه الحافظات المليئة بالبول والخراء، وأكتب اقصوصة هادئة عن يوم مثلج صغير قد مر من ايام حياتي.

قلت لنفسي : من اجل مس نعمة مضامين الموسيقى.( ها ها ها ..... )

كل مدينة هي طبق مدور يأكل منه الموتى والاحياء بالتساوي. ينزل الثلج. لا ينزل. ينسكب فجأة. ربما كان كل خزين السماء المقرر والاحتياطي من الثلوج قد سكب دفعة واحدة. البحيرة القربية تجمدت منذ اسبوع . طيور بلهاء تحتمل كل هذا البرد، تقف وسط البحيرة . تتناقر فيما بينها. وراء البحيرة من الجهة الاخرى يترنح القطار وهو على وشك الدخول الى المحطة. حقائب وصلت واخرى ستغادر. هذه حقائب كلاسية. عناق ورحيل. حقائب جلدية مكتظة بالشحم والاحاسيس الفاسدة. انا لا اتذمر. فقط انظر في يومي مثل مريض يتعافى.

لا يمكن العثور على نفس في شجرة او حصى او بناية او انسان او فكرة. كل شيء اصبح تحت الثلج. لا اعرف اسم البحيرة. وصلت قبل شهر واحد الى هذه المدينة. هذا يعني انه مازالت هناك فرصة للتنفس قبل ان اتعلم عناوين الاماكن و اللغة و الاسماء .أي قبل ان تنسف نعمة الاختفاء. تنزل الان دفعة جديدة من الثلوج ببطء كأنها أسنان موتى نظيفة. اخيرا تحققت جميع امنياتي. حصلت على لقب الهارب الابدي بجدارة ( وهو عنوان مناسب لفيلم هندي طويل ) . وسعيد انا برداء الشبح الذي اتركه على كتفي كأنني لست انا. لكن من قال انني وحيد الى هذه الدرجة. برفقتي زوجي الحبيب : كلب جياكومتي. هاهو يعض طرف بنطالي متوسلا. أظنه ليس جائعا. اعتاد التوسل بسبب حرقة مبهمة في حنجرته. تماما مثلما نحتاح نحن في ساعات الشك المسمومة من التوسل الى جرعة من اليقين. انا لا اتذمر. لكني لست سعيدا. انا محرج فقط. يمكنني الان ان اهدأ قليلا وانصرف الى الشتائم بدل النبش في تفاصيل قلقي . نعم، توجد مضخة مكتومة تولد القلق على مدار الساعة في رأسي بطريقة هزلية. فأنا مثلما قلت : محرج من الخوف. مالذي يعنيه اني اشعر بالخوف من فكرة انني لن اكتب قصة بعد قليل. وماذا يخيف في ذلك. بعضهم يكتب قصة قصيرة كل ثلاث سنوات. قرأت ذلك في مجلة ادبية. الحوارات واللقاءت التلفزيونية مع الفنانين والشعراء تكون افضل فرصة لتمرير ريش الطاووس على كونه جزءا من الحقيقة ، واخرون يكتبون سيرهم الشخصية ويشرخون روؤسنا حين يصابون بالعجز من الاتيان بكتابة. أنا اقسم بأني أحتاج الى اقصوصة كل ربع ساعة على الأقل. السيرة ليست كتابة. هي مجرد حالة من حالات التقيؤ المحموم. هناك قئ هو مجرد قئ تافه. واخر يمكن استخلاص دواء منه لمرضى المصحات النفسية، او بوصلة لمراهق نحيف، نبتت في ضلعه فجاة زهرة الشيطان. اعرف من هو الان بعمر ثور. قضى سنواته تلك في البكاء والحذر من أن لايقع في الفخ ، بعد أن قرأ حيوات الاخرين المريبة، وادرك مبكرا انه من الافضل التسلح بالشتائم والسخرية في كل ربع ساعة من خلال اقصوصة لا دلالة لها سوى انها رائحة عطنة تبعد الاخرين عنه . أن لايفيق الا وهم يرتلون الايات فوق قبره او يشتمونه او يصبون زجاجات العطر فوق جثته كي يتحملوا لحظات طمره في الارض والخلاص من جيفته الى الابد. لا بد من انني اخرجت عنوة من رحم مشتبه به. مع ذلك لا اتذمر، ولست سعيدا وغير محرج من الخوف. هل قلت انني مريض يتعافى؟ هذا غير دقيق ايضا . في الحقيقة انا ممثل لا يريد النزول من الخشبة حتى وان انتهت الكوميديا. اريد ان اختفي قبل ان يصفق الجمهور . اريد ان ابقى على الخشبة وان اقذف بالفواكه المتعفنة من دون إنقطاع.


كلب جياكوميتي العزيز، يشم الان جذع الشجرة المتجمد. ربما بالت عجوز ميتة في هذا المكان. اشعر انني بحاجة الى ان اكون حالما. فقط لهذا النهار إن امكن. ارجوك. احتاج الى الكف لبعض الوقت عن إطلاق الشتائم التافهة. ربما بسبب الثلج تنشأ هذه الحاجة الحلمية الى النعاس. ما الجدوى من تسمية صديقي الشاعر ببرميل الزبالة. هو ينبش في التراث. ويقول انه يشفط من وحله وجبة لابأس بها كل يوم. ويكتب قصيدة هي عبارة عن فطيسة ملونة من التراث والمعاصرة. او ان ابي لم يكن سوى : خراء منقط وهزيل. اللعنة على تفاهتي. لا يعقل وليس من الانصاف ومهما كانت الحكة التي اعاني منها في الكبد ومرات في البنكرياس ان تسبب في عنونة هذه البحيرة المتجمدة - طبقة البيض الفاسدة هذه. مازلت مراهقا بما فيه الكفاية وأحتاج الى حكمة ديناصور او قضيب ( بوذا ) للكتابة.


حسنا انا الان مراهق تائه. ممثل لايريد النزول من الخشبة. ولا بد من ان اتحلى بالقليل من الشفافية البكائية وعليها ان تكون مناسبة لهذا الطقس الموسيقي. اذن ساسميها : بحيرة ( كافافي )، وبالتحديد ( لا طريق لك لا سفينة لك مثلما خربت حياتك في هذه الزاوية فهي خراب انى ذهبت ). نبح زوجي العزيز صوب الأفق. هذا عنوان ايقاعيٌّ يلائم نشيد البحيرة الابيض. بداية جيدة للتسلية بدل كل هذا الضجر. لكنني لا اتذمر . يومي هو الذي يعوي من دون سبب. تذكرت قطعة موسيقية اخرى. هي : ( فرانكشتاين حين يضطر الى منح مؤخرته الى المسخ الذي خلقه ). فكرت ان أسمّي البحيرة بإسمها. ترددت قبل ان انهض. او ان كلب جياكوميتي الذي نظر الي باحتقار مضاعف. فكرت ان اترك ( كافافي ) عنوانا لها هذا اليوم. ربما اصاب غدا برصاصة من طراز اخر واسمي البحيرة : ( أذن فان غوغ الصفراء.). بالتاكيد !... نعم ... رائع ! حسنا فعلت يا برميل الخوف. لا ، لا ... الشاعر هو برميل الزبالة. انت بالوعة الخراء. سيكون هذا العنوان ادق بكثير وملائم كلما احتجت ان اعود الى هنا من اجل التنزه برفقة كلبي النحيل. اخيرا اصبح للبحيرة عنوان اصفر بدل هذا الابيض الاخرق. لابد ان يكون هناك شخص اخر سعيد بهذا العنوان. احسنت صنعا يا صغيري. وأطعمتُ الكلبَ أذن غوغ.


في المقهى المجاور لبحيرة ( أذن فان غوغ الصفراء ) إنحشر الزبائن في الكراسي حول الطاولات. كانوا صاخبين. تحاشيت النظر الى اسم المقهى المعلق اعلى الباب. احاول الحفاظ على نعمة الاختفاء قدر المستطاع. مع ذلك لا احتمل اختفاء الاشياء من حولي فهذا موت أعجز عن دخوله الان. أريد الشبح ، لا القبر المتحرك على اربع ارجل. اما عادة تغير الاسماء فقد ورثتها من عقدة ان الواقع يمكن له ان يكون واقعا وليس حفرة الاوهام المستعرة. انا مخادع مصاب بالفصام واعاني من حكة في اسفل خصيتي. لست ممثلا لايريد ان ينتزع من وحل الخشبة ولا سعيدا ولا محرجا ولا حتى مريض... اكثر ما يثير هلعي أن يعرف احدهم اسمي في هذه اللحظة. ولكان ايقظني بوقاحة من هذه النزهة التي تشبه انفاسي الكريهة . دخان السجائر وكوؤس النبيذ والفودكا والنساء والثرثرة التي تعلو وتخفت مثل امواج البحر. مرات يسود صمت مباغت وسط هذا الحشد من الامواج اللاهية، وكأنهم اتفقوا فجأة على ان يكفوا عن فتح افواههم. او كأن البحر وقف دقيقة بكاء حدادا على ارواح غرقاه منذ قرون. لكنها مجرد صدفة للتمويه والتقاط الانفاس. فقد عاد الهدير. لا توجد طاولة فارغة. يوجد كرسي وحيد وهو الكرسي الثالث لطاولة امراة وزوجها. هل الرجل زوجها الذي تخونه أم هو مجرد قضيب مؤقت تستخدمه لهذه الايام الشتوية. وافقا بأدب على مشاركتي طاولتهم. تعمدت ان ابعد الكرسي قليلا عن الطاولة كي لا اضايق انفاسهما. خاصة ان الرجل كانت تفوح من فمه رائحة الثوم . كانت تصل الى انفي مثل اصبع قتيل مدفون في حديقة حيوانات. ربطت ( كلب جياكوتي ) بمسند الكرسي. كانت المرأة قد تخطت العقد الثالث بكثير. اسنان الموتى في الخارج مازالت تصل من السماء في هجرات جماعية. خطرت لي فكرة وانا احرك السكر في كوب القهوة : لم لم اتبول دمي في تلك الايام. او على الاقل لكنت داويت تلك الحكة التي تسببت في سلخ دقيق ووحشي لجلدي . يبدو ان المرأة لا تستخدم قضيب الرجل ، فهو مجرد صديق من الماضي القريب. او قل قضيب سابق تحاول ان تتحاشاه الان او التخلص منه. لو كنا في مشهد سينمائي وكنت المخرج وكانت هي الممثلة . لتركت لها حرية التخلص من السكير الجالس معها. ربما تطلب رمانة يدوية. تنهض. ثم تبتعد قليلا : وداعا ايها الزب الميت !

تمنيت لو كنا نتكلم بلغة واحدة وان جميع المحشورين في المقهى الان هم اخوة. لا حاجة لأن نتكلم لغة واحد ة، فقط لنكن أخوة في هذه الساعة الثلجية المباركة. نتعرى جميعا وينيك بعضنا بعضا فوق الطاولات والكراسي بكل حب واخلاص. سيكون مشهدا خلابا من الخارج مع كل واجهات المقهى الواسعة هذه. كانت جميعها من دون ستائر. إنها مناسبة تماما لجذب انتباه من يتجمد في الخارج. فقط سنحتاح الى مقام بصوت ( القبانجي) ونحن نلهث ونتبادل اجسادنا برضا ومرونة. سنسمي المقهى ( نهار المني السعيد ). سيكون الثلج في الواجهات الزجاجية ستائرا متحركة. شلالا منتظما من اسنان الموتى العزيزة. نصرخ باعلى اصواتنا مستغيثين من فرط الحب. الطاولات مبللة بصمغ الرجال. النساء يخربشن باظافرهن الطويلة ورق الجدران. النادلة توزع وهي سعيدة ، المناشف على الزبائن كي يجففوا عرقهم. اخرون ياتون الى المقهى. جمهور غفير في بابها. الشرطة تتدخل لتنظيم الدخول. محطات التلفاز تنقل الحدث في بث مباشر الى جميع انحاء العالم. العدوى تعم مقاهي عديدة في العالم. تقرير صحفي يقول ان رئيس دولة محترم كان في احد الطوابير ينتظر الدخول. كنت سعيدا حقا وانا ارى النادلة متمددة على البار في فترة استراحتها وكلب جياكومتي يلعقها بشبق موجع. أنا مَنْ افلتُّه من مسند الكرسي !


اللعنة ! لاشئ يمكن له ان يشرب او يأكل او يحلم به من دون ثمن باهض. والاحداث اكبر من ان ُتمسك لكي نستمتع بها.الحياة ليست في الحياة. الحياة خلف المقبرة، العبور اليها يكلف الحياة نفسها .الاشياء تجمّدت. لا نياكة جماعية ولا مناشف. العالم يختفي. اخشى ان تستمر وخزات هذا السلام المفزع طويلا. اين هي قذائف المدفعية لتسقط على هذه المدينة. قذائف سريعة بدل كل هذه الثلوج المترنحة مثل رجل مدهوس يحاول النهوض الى حياة ماقبل الدهس. ولو وقفت على حافة الجسر لتجمهر الناس من حولي و قد يتوسلوا كي لا اقفز. ستكون هناك سيارة اسعاف وشرطة وصحافة وكاميرات وربما سيخرج علينا من حيث لا ندري سواح يابانيون بكامراتهم الالكترونية الصغيرة. يبتسمون بطريقة واحدة كأن اسنانهم زي مدرسي موحد... ابتسامة منسوخة بدقة من جدهم الساموراي عبر قرون. اغلقت باب المقهى بالخطأ على ذيل الكلب. اعتذرت له عن كل الاخطاء والكبوات. وهمست في اذنه انني لم ارتكب يوما مايعرف بالصواب. سامحني. ارجوك.


أمازلت مراهقا الى هذا الحد ! هل يعقل اني مازلت اتذمر وامرض وامثل . متى اشيخ يارب القرود. متى تكون لي طلعة شجرة هرمة. لم هربت اذا ! . هناك كانت مناجل اليأس لا تكلّ و لا تمّل. لم لم انتظر رصاصة الحرب او رصاص العائلة الملطخ برائحة السمك الميت. الم اكن اجلس تحت شمس الصيف هناك وابكي مثل عاهرة سرقوا زبائنها. شمسنا الاسطورية وهي تسيح بحقدها المعهود فوق سطوح البيوت. انتهت من زمان قدرتي على البكاء. لااريد ان اتذمر. اريد ان انزل من على الخشبة وان لا اتعافى. لكن حتى لو كنت ميتا لا بد من الشعور بحشرة صغيرة تدب فوق جمجمتي. لم لا اذهب الى غرفتي واندس في الفراش. لدي قصص ( بورخيس ) هاربة من الواقع الذي اخشاه ، ولدي اربعة اقداح ويسكي في زجاجة كبيرة. عبرت الى الشارع المقابل لمقهى ( نهار المني السعيد )، لمحت المراة من النافذة، وقد حصلت على قضيب جديد غير ذلك السكير صاحب لسان الثوم ، وهي تضحك الان وقد تطاير شعرها من فرط الامتنان. فكرت في العودة الى بحيرة ( اذن فان غوغ ) لتدخين سيجارة. لكن ( كلبي ) بدأ يتجمد. أكيد أن الله في اجازة صيفية ومنهمك بتنظيف جوفه من الثلوج. لا يمكن محاسبة الله وهو يخري فوق النهار. الجريمة والعقاب. دوستوفسكي العزيز. كيف امسيت الليلة. أما زلت تدون في قبرك . لا تتعب نفسك كثيرا يا صديقي ! راسكولنيكوف لايشرح الان ما إقترفه. لقد اصبح شجاعا منذ ان تخليت عنه. انت جبان. وها هو يصفك بالمريض. يقول انه يمثل الان في السينما. يقتل ويشرب من دم الاخرين وله معجبات ويجمع الدولارات كما إستأجر حراسا ليحموه ويساعدوه في القتل أيضا. سالوه في لقاء صحفي عنك. اخبرهم بأن امنيته الوحيدة ان تكف رواياتك عن الخلود. انها تفزعه. وتقلل من هيبة جميع كتاب السيناريو الذين جاءوا بعدك. ودعنا صديقنا راسكولنيكوف في استدارة نهاية الشارع. اشعلت سيجارة اخرى في انتظار( كلب جياكوتي ) وهو يتبول على الجدار. لقد تيبس جلده من البرد. نظر الي كما لو أراد القول : وجلدك ايضا ! هذا الكلب خلق من خطأ ونظرة مرة. لابد ان سر خلقه يكمن في معجزة الورم الذي كان يعاني منه خالقه في المثانة.كلب جميل. كل شيئ فيه ينضح بخيبة مدروسة. دوار. رفقة خالدة من التيه والبؤس.


اللعنة ! ( اقصد خره بالله !) ، في اي دكان سنعثر على الخيوط . الكلب ينز من خاصرته.

في الشقة اخيرا. لا شيء ضروريا باستثناء السرير. رغم انه سرير غير مخصص للنوم مطلقا. كلب جياكوميتي هو الاخر يعاني من الارق. كرع كلب جياكومتي من زجاجة الويسكي وكرعت انا ما تبقى. رميت بعلبة الاسماء التافهة في المغسلة. كانت الصحون قد نبتت فيها العفونة على هيئة اشجار صغيرة تعبة امتدت اذرعها الى الملاعق وطالت عظمة كتف دجاجة البارحة. في زاوية الغرفة كانت اكوام من خراء كلب جياكوميتي.


- لما لا تصعد الى السرير.

- ارجوك ، لقد هلكت.

- انا من يتوسل اليك ... سنهلك من دون هذا.

- لكنني تعبت .. لقد صرت خرقة.


تعريت ثم رأيت كلب جياكومتي يتمخط وهو يخلع سرواله. قبل ان ينقضي اليوم بلحظات كان عواؤنا يصل خافتا الى السماء كأن الله كمم انفاسنا بكف عملاقة من الجليد.

من دون تذمر ، من دون معافاة ، من دون الوقوف على الخشبة ، من دون حرج من الخوف ، ومن دون بكاء. مر يوم آخرمن أيام حياتي ،و كل شئ على مايرام ، غير اني الان من دون جلد.

ليست هناك تعليقات: