الأربعاء، 5 مارس 2008

النفق والهذيان


ـ على كل مواطن ان يكتب رواية ـ

يقولون : كن نفسك. بمعنى كن هذه الهلوسة. حسنا، ها أنذا قد صرت قطعة واحدة فقط من مكعبات هرم نفسي الغامضة ومن دون حرج. اذا تحملوا الرائحة رجاء !
جاء في دستور سفينة نوح الجديدة أن على كل مواطن أن يؤلف كتابا أو يحفر قبرا.أنت محظوط ، فقد تعلمت القراءة والكتابة في المدرسة من دون مشقة كبيرة. والآن في يدك فأس وزب حمار سادي. أنت عامل ورقي في مطبعة المدينة السرية. أنت قادر الآن على الدفاع عن النفس، وتكتب بطريقة حيوانية أصيلة. تبا للكتاب ومؤلفاتهم الأدبية. تبا لكل من يريد الجلوس في صفوف الأدب العالمي. الكتابة هي من أجل المتعة والدفاع عن النفس لاغير. تبا لفئران كافكا ، خراء على سحر واقعية ماركيز، وليطبخوا بدهون قصائد بودلير العدس للفقراء، اما تمثال السياب فليجروه بسيارة عسكرية مثلما جروا تمثال الدكتاتور في ساحة الفردوس...
ـ استغفر الله ربي وأتوب أليه ...
أنهم منافقون، يعيدون في كتبهم طباعة أغنية واحدة قديمة تتحدث عن الانسان الذي حلم به. وهذا هو مجرد خنزير وإبن زانية. إنهم طواويس الذكاء الوقحة. والدة ارنستو ساباتو كانت تقول إن الزمن هو المعلم ، وهذا يكفي. يجب أن تكتب أمي رواية تنافس فيها روايات الساحر المشعوذ باولو كويلو ، فهذا دجال أعاد حكمة الكسل الديني الى الرواية.
على الجميع أن يتبادلوا الكتب بدل تحية الصباح. على الجميع الكتابة في أوقات الفراغ والعمل أيضا. أن تكتب حين تسحب بملقط ، شعرة صغيرة من أنفك. وأنت سيدتي، حين تعدّين السلطة ، أحتفظي بكومة من الأوراق بالقرب من سكين المطبخ. وبعد تقطيع كل حبة طماطة، أكتبي سطرين. بعد شهر واحد من أعداد السلطة سيكون عندك كتاب جيب صغير. ويمكنك أن تساهمي في المكتبة البشرية وتعرّي الحقيقة الأدبية الباردة. سيدة مثلك أسمها ايزابيل الليندي تكره منظر الكتب الكثيرة اليوم في المكتبة، وتدرك أن المنافسة أصبحت خطيرة. هي خائفة على الكرسي الذي حصلت عليه في ماخور الأدب. أكتبي ياسيدتي كي نثبت لهم ان إنجاز كتاب هو محض إطلاق آهة جنسية. بعد كل مضاجعة دوّني ملاحظتين. وبعد عامين سيكون عندك أشهر كتاب بعنوان : ملاحظات زوجة بعد ممارسة الجنس. أنا أدعو لفتح دورات مجانية في الباصات ودورات المياه وفي البيوت لتعليم الكتابة. كيف يمكنك أن تجمع كتابا من مخلفات كل يوم. كتابا مأخوذا من سلة مهملات الزمن. سنرسل مندوبين مثل جماعة ( شهود يهوه ) الى كل مكان، و مثلهم سنطبع مجلة بعنوان ( إستيقظ ْ ) ، لتعليم الكتابة والصراخ. إستيقظ أيها الأنسان ، أستيقظ وأكتب كتابك قبل فوات الآوان. ولكي تملك المراس أذهبْ الى كورس لتعلم القتل. فهو أيضا كتابة جريئة وقذرة. القتل وحده هو الكتب المنقوعة بأكسير الحياة. أنا أمزح . فإياك أن تقتل إلا إذا دعت الضرورة. دوّنْ يومياتك عن المرحاض بشكل منتظم ، وستكون لديك سلسلة كتب عنه و أكيد أنها ستحقق الشهرة ، أي لتكن ملاحظاتك ملاحظات قاتل غير نادم. ستجاور مجلداتك مجلدات المريض دوستويفسكي. تبا لهم، تبا لريلكه الرومانسي، وتبا لبورخيس العجوز، الأعمى الذي يلهو بالكلمات ويصنع منها أحجية للضحك. أنت أيضا ساحر وجميل. إجمعْ الصحف كلها، وأكتب دراسة عن أحاسيسك حول أخبار الموت. إستعن بالكمبيوتر، بمحركات البحث في شبكة النت ، وقم بجمع كل ماقيل عن العلاقة بين الجنس والله. سيكون عندك كتاب الى جوار كتبهم السميكة والحكيمة والفاسقة. سيكون لديك كتب مثل : الطريق والمحاكمة ومائة عام من العزلة وخفة الكائن التي لاتحتمل ، وستكون عندك قصيدة بعنوان شمس في بنطال، ولم لا طالما أن هناك واحدة عنوانها غيمة في بنطال. ليكتب الحمقى والمتعبون والفاسقون. والخراء كله على جوائز الآداب. وخراء مضاعف على جوائز السلام. فليكتب المنحوسون ولتكتب عاهرات الفنادق الرخيصة. ليكتب العجوز رواية عن التجاعيد. وليكتب المحكومون بالاعدام مقالات عن الأمل.
عندنا في البلاد ، يطالبون بأن يتحول الدم الذي يسيل الى روايات واقعية عالمية. فلربما الدم وحده مادة روائية محلية وتجريبية. سينطلقون قريبا من محلية الدم الى النجوم. ستكون كل طاسة دم حبرا لصفحة من رواياتهم العالمية. المثير للسخرية أنهم يتحدثون أكثر مما يعملون. يرفعون شعار: بالدم والحزن والواقع وحده تكتب الروايات العالمية العظيمة. في حين ان الروايات يمكن ان تكتب بالخراء وكوابيس السلام أيضا.
على كل مواطن ان يكتب رواية، وعلى الجميع أن يصرخوا وأينما كانوا : أنتم أغبياء وسفلة...
أخرجْ رأسك من سيارتك وأصرخ: أنتم أغبياء وسفلة. يجب ممارسة هذه الرياضة بطريقة جماعية في ساعة مبكرة من الصباح. تقف المعلمة في الصف وتصرخ: أنتم أغبياء وسفلة. يرد الأولاد: أنت سافلة وغبية. بائع الفاكهة في الساحة يصيح: أنتم أغبياء وسفلة. النادلة في المقهى تصرخ ، والزبائن يصيحون. الجميع يصرخ سوية في كل مكان وفي كل زاوية: أنتم أغبياء وسفلة، الى أن تصعد الأصوات البشرية سوية مثل غيمة القنبلة النووية ، ببطء تصعد الأصوات الى السماء، ومن ثم تمطر أصواتا نارية : أغبياء وسفلة... أغبياء وسفلة ... أغبياء وسفلة ...
أغبياء وسفلة. هي تصلح عنوانا لكتابك القادم. كتاب يتحدث عن الحب مثلا وعن سفالة الأنسان. ننصح بأختيار العناوين القذرة والمباشرة والأبتعاد عن العناوين الشاعرية. لأننا لسنا شعراء، ولسنا أدباء نتبختر ونلطم على مأزق الوجود. نحن مجرد مواطنين يريدون أن يكتبوا. مواطنين ضجرين، نتدرب على الكتابة والقتل. بمكنتنا أن نبدع كتابا بكل الوسائل والطرق من دون أن نكون أدباء في سوق الكتب. نحن نطبع الكتب على ورق رديء، وبامكانياتنا المحدودة. نحن مواطنون نكتب في المدوّنات المجانية على شبكة النت عن كل شئ من دون مراعاة قواعد اللغة ومشاعرها. نحن مواطنون مجانين، لا نحتاج إلا الى اصدقاء قلة لقراءة كتبنا. وإذا أعجبهم مانكتبه، فليطبعوا هم ملايين النسخ، وليصفوا كتبنا الى جانب روايات فوكنر وتولستوي وحتى أغاثا كريستي.
لاتقلقوا ، ليس هناك حقائق أو مهام نبيلة للكتابة، فهذا محض هراء. الحقيقة الوحيدة هي أننا نولد ونموت، وبين هذين القوسين يحدث ما يحدث، نحن مواطنون سيئون نريد أن نتعلم الكتابة من دون معلم ، وأن تكون لدينا مجاميع شعرية وروايات ودراسات في المكتبات العامة. وكل مانحتاجه هو المزيد من أصناف المخدرات والحبوب المهلوسة والكحول والقتلة وحبرالضحايا الأحمر...
يبدو أن الانسان قد سبّب للأرض صداعا شديدا. وها هي درجة حرارتها ترتفع في كل ثانية. هم يخشون أن تتقيأ قريبا بصورة جنونية. نحن بحاجة الى عودة آلهة الاساطير. وأن نقدم القرابين والنذور للريح والنار. هذه مادة دسمة أخرى لروايات هذا القرن. إستعدوا !
حاجتنا الوحيدة هي الى الورق. ورق الكتابة، ورق التواليت، ورق الاشجار، ورق الكمبيوتر المفترض، الجلود – الورق، الطين، الحجر الذي حفر فيه الأقدمون. أنا مغرم بكل أنواع الورق. بمقدوري السجود لحيوان من ورق، أن أبيع أهلي في سوق العبيد مقابل رزمة من الورق.
حين ينفد ورق التواليت جفف كس حبيبتك بجبينك. أكتب فصلا عن هذا الموضوع . أن يكون لديك غرفة وباب يقفل وإمرأة طويلة تحب ان ُتضاجَع أربع مرات كل ساعة وفكرة ٌ لم تتبلور بعد عن الورق، أن تكون رجلا مسكينا أراد أن يكتب قصيدة خاسرة. عليك الإسراع بتلطيخ الورق من كل ما يقطر حواليك. وكل ما تحتاجه الآن ورقة وفكرة متواضعة وليس المزيد من المخيلة. ومثل برغوث ياباني متشبث بفكرة الجمال نط َّ وإلتصق بالورقة. مثل رجل عار يجلس تحت أمرأة نائمة يزهر عريها بثورا وأوراقا وعصافير ميتة. هل أخذت حبيبتك تشخر، هل تنام على بطنها. القلم بين أصابعك. الورقة نظيفة وتفتح ساقيها بحب وتواضع. أنت تحتسي تحت ظلال شجرة الدم الانثوي ! ومن ثم تكتب عن أمرأة من لحم ودم :
عند الكتف توجد شامة كبيرة، بشعة. لونها لون ظفر محروق. حولها تناثرت شامات أخرى صغيرة. واحدة متوسطة، حجمها بين الكبيرة والصغيرة. شكلها أقرب الى النجمة، لونها قهوائي هادئ. لو أزحنا الشعر الذي يغطي الجزء الآخر من الكتف، سنعثر على سرب من الأنتفاخات الحمر. أشترت المرأة من الصيدلية دواءا لا نفع منه. مهلا، لا داعي للعجلة والأنتقال الى مؤخرتها. مازال الطريق طويلا الى هناك. تحت الكتف كل شيء هادئ مثل سماء صافية. منطقة وردية تتنفس فيها الحياة الآن. عند الخصر في أنبعاج الظهر يوجد حقل من الزغب الأصفر تزداد كثافته بنعومة صوب خط العمود الفقري ، صوب الثقب الذي ينتظر وصولنا إليه. يمكن أصطياد بعض الشامات الصغيرة جدا في حقل الزغب. لكن بدل ذلك دعني أجرب لك رائحة هذا الحقل. قرّبت أنفي بحذر كوميدي من ظهرها وأنا أستنشق اللحظة بعمق. ماذا تريد ! أرجوك ، لا تيأس ! ستكون هناك روائح من تلك التي تتخيل. عند الزغب لا رائحة تذكر. لكن إن أحببت ! ، رائحة مثل باطن كف طفلة جائعة. هل بقربك زجاجة ويسكي أو فودكا ؟ نحن الآن نصعد من الأنبعاج الذي يستريح فيه الزغب الى بداية التلال. لحستُ هذه المنطقة مرارا كلما ركبتها مثل حصان. عند بداية التلال كل شيء ناعم الملمس. يمكن أن تدعو مجموعة طيبة من رجال الشرق للتزحلق والتسلية. اللحم المشدود هنا يستحق لمسه الآن بطرف الأصابع للتأكد من بهائه. أخشى أن تنقلب على ظهرها قبل أن نكمل السوح. ربما تحلم هي. تحركت حبيبتي ثم هدأت. ربما السبب لمسة أصابعي. في الشق زغب أسود. هو قليل جدا لكنه ضروري مثل غيمة يتيمة في السماء. التلال مكتنزة. ولو صفعناها لإرتجت بطيئة ً مثل موجة مرسومة في لوحة. يمكنك أن تضع خدك الأيسر هنا كي تحس بقيمة العالم. هو مكان مخصص أيضا للنزهة بعد منتصف الليل، تماما مثل نزهتي الآن. كما أنه سجادة لأداء صلاة الفراغ وغار للتأمل وكتابة الآيات الوقحة. في الشق. جرّب أنت ! رائحة مسحوق العرق مع الكثير من الرمل المطحون. الثقب هو ما يضيء في هذا المخبأ كما لو أنه نصف خوخة مقسومة بكل دقة. أنظر اليّ. أنا أترك ُ القلم والورقة. أتمدد بالمقلوب فوق المرأة حبيبتي. يكون خدي الأيمن على وسادة الثقب. تتأوه هي : أوه حبيبي. هل نمت ...
- لا حبيبتي نامي... أنا أحلم فقط .
أحلم بانني أدخل في ثقب الخراء بكل جسدي. سأزحف الى عتمة الرحم وأعثر على المزيد من الورق. سأكمل الكتابة وصولا الى العنق من داخل الأحشاء. سأخرج في الصباح متزحلقا على لسانها حين تنقلب فوق ظهرها. سنزحف من أصابع قدميها الى أنفها الجميل. لنلصقْ على الورق بعض ما يستحق وما يمكن تدوينه ساعة الأنشطار بضربة قاضية من الفراغ الذي يخلفه جسدان يسكبان صمغ روحيهما الأبيض. وهذا كل ما عليك ان تفعله مع الورق إن كنت تنتمي بالوراثة الى موسوعة الطقوس اليابانية الكوميدية أكثر من الشعر. ثق بأن الورق يستحق أسوأ من ذلك بكثير.أرجو ان لاتتورط في كتابة نهاية دينية لطيفة للتأريخ ، وأن تقدر قيمة الورق.
يمكنك أن تكتب عن كل شئ وعن اللاشئ. يمكنك أن تكتب بطريقة القوّاد في أصطياد الزبائن. ويمكنك أن تغوي الآخرين مثل رجل دين مدرَّب على التبشير. يمكنك أن تترك أثرا على الورقة مثل أثر أقدام الطيور عليها ، ويمكنك أيضا أن تترك أثر قذيفة مدفع تسقط مباشرة على رأس جندي في مطلع الشباب. كل شئ مسموح به. فالكتابة هي الارض الوحيدة التي يمكن فيها صنع الأحلام وتحقيق جميع أمنيات الانتقام من دون حدود. ليس هناك من شرط للهذيان ولا قانون واحد للحب.


رواية أخرى :

كانت هناك جائزة إلهية ثمينة لمن يفسر الانسان

جلسنا نكتب ليل نهار

صار عندنا اولاد ومكتبات وأزمان ومقابر

لكن أحدهم جاء وقال إن الله والجائزة مجرد خدعة

عدنا الى الغابة وقررنا القتال حتى الموت


يعود الفضل في تأسيس جمعية الدفاع عن المنحوسين لتلك المقاطع من تقرير سفينة نوح الذي كتبه رجل مريض. أما نحن أعضاء الجمعية ، فلسنا سوى مواطنين أجتمعوا من أجل تأليف الكتب حسب وصايا الرجل. بالرغم من إنحراف الأهداف الاولى لجمعيتنا عن مسارها، بسبب كتاب أنضموا الى الجمعية وصارت لهم فيها سطوة ونفوذ. لقد أعادوا للكتابة مرة أخرى نبرات الأدب المملة. انهم يلقون الخطب عن المعايير الذهبية للأدب. أما متى بدأ مرض الرجل الخرائي ، فهذا المأزق قد تفاقم بعد زيارته الى دكان بيع الكتب في سنوات الحصار الاقتصادي. في تلك السنوات تفشّت الهلوسة وتفاقم الرعب. اخبرني الرجل المريض بأنه بحث عن رواية أرنستو ساباتو ( النفق ) حين عزم على كتابة تقرير سفينة نوح. وهذه قصة بحثه عن ( النفق ) :


دخل الرجل عند الظهر في أحد ايام شهر آب الى دكان صغير في شارع المتنبي. كانت الكتب قد صفت عموديا وبدت مثل ناطحات سحاب صغيرة من الافكار والرؤى والحماقات والدجل والشعر. وفكرت : كيف هو سحب كتاب من ناطحات مكونة من خليط من الكتب غير المصنفة. كان صاحب الدكان يراقب الرجل بطرف عينيه متظاهرا بتدقيق الحسابات في سجل ضخم على الطاولة. مرر الرجل أصبعه على عناوين كتب احدى الناطحات: تعلم الفرنسية من دون معلم، السماد الحيواني، القومية العربية، أفضل عشر قصائد غزل من الشعر الجاهلي، موسوعة الأمراض النفسية، محاولات اغتيال الرئيس، السيّاب، قصص من الحرب ، هارون الرشيد، اللامنتمي، تأريخ العراق المعاصر، البنيوية، الأمير، طرق مكافحة البعوض، سيرة النبي، هاملت، أشعار عبود الكرخي، إبن سينا، البتروكيماويات، فهم السينما، الإمبربالية، في انتظار غودو...
رفع الرجل أصبعه عن العناوين وسأل:
ـ المعذرة ، أبحثُ عن النفق ، أرنستو ساباتو
ـ أعتقد .. .أمممم ، ربما لدي آخر نسخة ...
أقترب صاحب الدكان من ناطحة مجاورة لتلك التي بحث فيها الرجل، ثم مرر أصبعه على العناوين من أعلى الى أسفل، قرأ بسرعة: الجريمة والعقاب، سيرة الخلفاء الراشدين، المملكة السوداء، محركات السيارات، ميشيل عفلق، موت في البندقية، المقامات العراقية ، المسيح يصلب من جديد، المسخ، رياض الصالحين، المسرح الملحمي، النفق ....
وسحب ( النفق ) بسرعة من دون ان تنهار أو تهتز البناية. وضع الكتاب في يد الرجل وهو يقول :
ـ أنها النسخة الأخيرة.
قلب الرجل صفحات الكتاب ثم بحث عن سعر الكتاب على الغلاف.
ـ الف وخمسمية دينار.
ـ هل هذا آخر سعر ، أم ...
ـ أنه سعر نهائي
ـ شكرا. سأبحث عن ( الجريمة والعقاب ).
أثناءها دخل زبون اخر .
ـ أظن أن جرائم دوستوفسكي هناك. أشار صاحب الدكان الى بناية غير عالية.
عندما كان البائع يتحدث مع زبونه الجديد ، رفع الرجل قميصه بسرعة خاطفة وحشر ( النفق ) وراء حزام بنطاله. ثم تظاهر بأنه يبحث عن ( الجريمة والعقاب ). كان للزبون مظهر طالب جامعي مريض، قميصه أبيض، ويتعرق بغزارة ، و يتلفت مثل المطارد يمينا وشمالا.
ـ النفق - قال صاحب الدكان - اعتقد ... أمممم ... ربما لدي آخر نسخة.
جمد الدم في عروق الرجل ، وهو يتطلع الى البائع الذي أخذ يبحث من جديد في تلك البناية. ياربّ القرود الأحول ! إذن ستكشف سرقته من دون شك.
أخذ البائع يبحث عن النفق وفق تلك الطريقة . كان قلب الرجل يخفق بجنون. كما إستغرب من أن البائع نسي بهذه السرعة مكان الكتاب. لكن الغريب والمفزع قليلا أن البائع أخذ يقرأ بسرعة أيضا عناوينا اخرى: كل شئ عن النحل، نهج البلاغة، الحرب والسلام، أنغمار بيرغمان، أدب قادسية صدام، الموسيقى العربية، الغثيان، انطون تشيخوف، الاعشاب الطبية ، أوديب ملكا، ميشيل عفلق ، النفق ...

سحب ( النفق ) بتلك السرعة وأعطاه للشاب:
ـ أنها النسخة الاخيرة المتبقية في الدكان ...
قفز قلب الرجل حين رأى ( النفق ) بيد الشاب. بائع محتال ! يتظاهر بانها النسخة الأخيرة من الكتب .
التفت صاحب الدكان الى الرجل : هل عثرت على الجريمة ؟
ارتبك الرجل :
ـ لا شكرا .. سأعود غدا .. شكرا لك على المساعدةحين هم الرجل مرتبكا بالخروج من الباب زاحمه عند الباب رجل بدين بحجم الفيل يمسح جبينه بمنديل بني اللون، ويلعن ( أبو الشمس ) العراقية :
سمع الفيل يسأل البائع :
- النفق...
وتكرر المشهد، إلا أن البائع اخذ يقرأ عناوين أخرى هذه المرة أيضا: ألف ليلة وليلة، السينما التسجيلية، متاهة الوحدة، الشيخ والبحر، في سبيل البعث، ناظم الغزالي، الحركة الصهيونية ، الامتاع والمؤانسة، فان غوغ، الثروة الحيوانية في الوطن العربي، الباب الضيق، النفق.
ثم سحب النفق ووضعه بيد الفيل. كرر ما قاله قبلها :
ـ إنها النسخة الاخيرة المتبقية في الدكان.
ألتفت صاحب الدكان ببطء كما في الأفلام السينمائية الى الرجل المدهوش الذي ما زال واقفا في الباب. إبتسم وهو يكشف عن أسنان بشعة هدمت بفعل ريح شريرة. غادر الرجل المكان وهو يشعر بالحنق.
اما التقرير عن سفينة نوح فمازال الرجل يحاول إكمال كتابته مع أن الهذيان يحاصر اخر زاوية تعمل بالمنطق في دماغه. ولولا الخجل من القراء لنسخت لكم الفصل الاول من التقرير. لكنه في الحقيقة مثير للتقزز. على سبيل المثال، اليكم هذا الهامش القصير من هوامش الفصل الاول فقط :
أسمحوا لي أن أمد أصبعي للمرة الأخيرة في زرف الخراء وأخطّ لوحتي، ولن يعنيني بصاقكم ونعتكم لي بالتفاهة ، لاتعنيني شتيمة ( الخنزير القحبة ). أنتم عاجزون عن أن تكونوا أكثر طهارة. أما أنا فلا أريد سوى رسم ما أشتهي: خطا من الخراء لاغير - على كل الطاولات والأسرة والملاعق والمناشف والسقوف. خط خراء على شواهد قبوركم وقبلها على خبزكم. خط خراء سميك على قتلاكم وأنبيائكم. على غلاف كتابكم المقدس، وخط خراء أسود على قلب المسيح. على حروبكم وسلامكم. وخط خراء متعرج على أرحام زوجاتكم . فوق طمأنينتكم وصفحات تاريخكم. خط خراء مستقيم على خط الزمن الأعوج. فوق أشرعة المراكب وفوق ساعة الغروب. فوق قمصانكم وعلى جلودكم. خط خراء دائري على رقبة القمر. مثلث على رقبة العائلة. وفوق أغلفة الكتب خط خراء بحجم المجرة، على عذابات الأحياء وأبتسامات الموتى. هكذا يمكن الحصول على كتب سميكة عن الخراء. الرائحة مصدر طيّب للسعادة. الرائحة هي أصل الأنسان. الأنسان خلق من رائحة عبثية كان الشيطان في الجنة الاولى يرشها في أبطيه قبل مضاجعة شجرة التفاح ...


ـ أنا آسف جدا على هذا الهراء ... حاولت أن أكون نفسي، لكنني أخطأت ودخلت في بيت مظلم آخر ...



2007 هلسنكي

تعال ايها الديناصور






أبسط يدك الدبقة ، مس جبيني
قس درجة حرارة التعب ايها الموت
لا تجلس بكسل مثل ديناصور في نهاية الممر
لا تتثائب ، أنني ارآك. تعال ، تعال وداعبني...
عض رقبتي، دعني أطبع كفي على جلدك البارد
اعلموا انني حين أموت، سأبقى حزينا الى الأبد ومشتاقا اليكم
مشتاقا إليكم جميعا، ايتها الزاوحف، ايتها البطات، ايتها القملات
أنتم جميعا من دون استثناء، يا عمال المحرقة
تعالي ايتها الريح واكسريني ، لقد تيبست....
الرطوبة أكملت حفرياتها في عظامي ، تقدمْ أيها الزلزال
أخبرني يا موت، بأي حيلة ستدخل باب قلبي وتخلع نبضه
اقول لكم بأنني لن اسأمحكم ،
وانني سأشتم كل يوم تعيشونه من دوني...
ها أنذا أصرخ لاعنا من هناك ، هل تسمعون؟
أيها الحب أنت خبز محروق قرب بئر فارغ
أيتها الكلمات التي لامعنى لها ، كوني خبز الموت وبئره
تعال ، تعال ايها الأنسان ، عانقني قبل ان يحرموني من عطرك
أنت نتن جدا ايها الأنسان، لكنني سأشمك مثل زهور المريض
مد لسانك ايها الديناصور في فمي ، ماهو طعم لعابك ايها الأب الوقور
اسمعوا وصيتي حتى النهاية، لاتبكوا قبل أن أنطق بآخر حرف لي
دعوا صوتي وحده يملأ الهواء، دعوه يتبجح للمرة الأخيرة
ايتها العصافير خذي حنطة جسدي بدل الدود
انني أعتذر منكم، أعتذر عن كل بصقة لفظتها فوق طعامكم
اعتذر لأنني مت من دون ان آخذكم معي
تعالي ايتها الشمس، اضربيني مثل أم قاسية
تعالوا جميعا وفي أيديكم السياط
تعالوا لكي أتذكركم، ايتها الكلاب المسعورة
تعالي ياامي وابكي عند رأسي، فأنت وحدك من يبكي مثل الله
تعالوا يااخوتي الساديين
تعالن ياخواتي المشعوذات
اعزفوا في أبواق كبيرة قرب وسادتي
وانقروا على طبل من صفيح ..
حركْ ذيلك ايها الديناصور العتيق
تقدم وأنت ترقص كهندي أحمر
تعال وامضغ عظام الأرنب الذي يرتجف تحت خصيتيّ
لاتمطري ايتها السماء حين يدخل الديناصور
أتركي للشمس مكانا في غرفتي
خذوا كل حاجياتي، لاأملك غير مسودات حكاية وأغنية
سأعاتب كل الاموات في المقبرة،
على صورهم الفوتغرافية التي نسوها على الحيطان
قلت لحبيبتي تعالي نلعب
تعالي كي أخرج المارد من جسدك بأصبع واحد
لاتقرئي، لاتمشطي شعرك، لاتعدي الفطور،
لا تشاهدي التلفزيون، تبولي في حديقة الزهور، قلت لها ايضا
وقلت للصديق: نخبك
وللشياطين كتبت قصائد
واشتغلت نادلا في بيت لصوص وقتلة
وللأطفال قلت حزورة
تشرب من الدم ويعميها الدخان
البعوضة، كانوا يصيحون....
والأنسان يعميه الجشع، كان جدي يقول
هذا كل ماكان بأمكاني فعله ايها الديناصور
تعال ايها السرير
تعالي ايتها المدفأة
تعال ايها الشرشف
تعال ايها الأب الجليل
ــــــــــــــــــــ

- يقال ان نيتشه حين مات ، ظهر في السماء ذئبا، واخذ يعوي من شدة الفرح ...
ويقال ان الأموات يتداولون كل ليلة فكرة العودة من جديد، لكنهم ينتظرون أن يكتمل العدد .....

قصة تتحول الى شعر من دون سبب





بداية الطفل

كنا ننتظر وصول التوابيت على حافة الطريق العام. كنا أنا وباسم في سن الثامنة. وكانت الحرب مع أيران في عامها الرابع. التوابيت ملفوفة بالعلم ومربوطة جيدا فوق السيارات القادمة من جبهات القتال. كنا نريد ان نصبح كبارا، لأن الكبار كانوا يقفون عند مرور التابوت رافعين أكفهم بوقار وحزن. وكنا نحيّي الموتى مثلهم. واذا ما انعطفت سيارة موت في حينا، عدونا وراءها في أزقتنا الموحلة، وكان السائق يبطيء السرعة لئلا يسقط التابوت. ثم تختار السيارة باب بيت نائم لتقف قبالته. عندها تخرج نساء البيت وهن يصرخن ويرمين أنفسهن في برك الوحل ملطخات ٍ الشعر بالطين. أما أنا فأهرع ورفيقي ليخبر كل واحد أمه بأيّ باب وقفت سيارة الموت. وكانت أمي ترد عليّ : أذهب وأغسل وجهك ، أو : أذهب الى جارتنا أم علي وإسألها إن كان لديها قليل من البهارات. وفي المساء تلطم وتبكي أمي مع نساء الحي في بيت المقتول.
ذات يوم جلست أنا وباسم بأنتظار تابوت. كنا نأكل حبات عبّاد الشمس. إنتظرنا طويلا وكدنا نفقد الأمل ونعود الى البيت خائبين ، حين لاحت لنا أخيرا سيارة الموت قادمة من الأفق. عدونا خلفها مثل كلاب سعيدة ، وكنا نتراهن على من يسبق السيارة التي توقفت في الأخير أمام بيت باسم الذي خرجت أمه وهي تصرخ بسعار، شاقة ً ثوبها في بركة الوحل. تسمّر باسم بجواري وهو يبحلق بذهول. إنتبه اليه أخوه الكبير وسحبه الى داخل البيت. أما أنا فركضت الى حضن أمي باكيا بحرقة. قلت : أمي ، مات أبو صديقي باسم. قالت : أغسل وجهك وإذهب الى الدكان ... أجلب لي نصف كيلو بصل.




بلاد الطفل

كنت قد ولدت في بلاد ٍ يطالب الجميع فيها بالثأر من الحاضر. كانوا يصرخون من المنابر : كتاب الله والشريعة... كتاب الله والشريعة. وكان الشعراء والفنانون يهتفون في الصحف : التراث ... التراث. وكنت كلما ألمس الله والتراث ، يتقرح قلبي وتتعفن اصابعي. كانوا مجروحين، يحلمون بتطبيب الألم بعظام الأسلاف وبخور القبيلة. وكنت أفكر بالروح والموسيقى والحلم وأرتطام الجسد بالجسد وبهذا الكون الذي كلما قطفنا منه زهرة ازداد غموضا ووحشة. كانوا يصيحون في وجهي : الجذور ... الجذور. لكني كنت معلقا في الهواء ، وكانت جذوري الكوابيس. لقد ولدت في مقبرة جماعية. في الليل. من زواج جثتين. الوهم والماضي. وكانت السماء بلون الدم.




بقية عمر الطفل

كان بودي ان أكتب قصيدة أقل شأنا من الشعر، وأرفع منزلة من الخوف. وكان ذلك بداية الهواية. كان العالم حينها يبدو تابوتا ، وكنت مشغولا بتعقب أحاسيسي مثل ضرير. وكانت المقبرة مدرستي الليلية.

نقول : كان يصارع الموت. وكأن الموت ثور. نقول أيضا : لقد داهمه الموت. كأن الموت فرقة اغتيالات. حين كنت يافعا حلمت بأنقاذ الغرقى. لذا أردت أن أتعلم السباحة عن طريق الكتب. يقولون : جاءه الموت. كم من المسافة قطعها مندوب السلام هذا كي يزوره ؟ نعم ، كان الموتى يتناسلون من حولي. بعضهم كان يشيخ وآخر كان ُيقتل.

لاحاجة الى تمجيد المطر في قصيدة. فكل الفصول هي أنت. الغيمة رمز. والغضب سماد القصيدة. عود الثقاب المبلل لايتكلم. المخيلة تسعة وتسعون متظاهرا يهتفون ضد المعنى. المخيلة مثل أسماء الله ينقصها أسم على الدوام . المخيلة تكره الله بسبب المعنى.

لا أحلم في الليل، فأنا لا أنام. أتعذب واقفا في الحديقة عند شجرة عملاقة. أتخيل الموت يدق، بمطرقة، أبواب العالم. وحين لايفتحون له، يدخل من الشباك. لذا نقول بأن الموت قد إختطفه. الحياة لاتعنيني. بل تعنيني مدرسة الغرق. نقول : رحل مبكرا. لكن أيَّ حقيبة أخذ معه في رحلته العاجلة هذه. فلاسفة يقولون إن الحقيبة كانت فارغة. رجال دين يقولون إن الحسنات كانت ملؤها أو السيئات. أما العلماء فيقولون إن الخلية تفقد اعصابها وتنفجر في نهاية المطاف. بعضهم يقول إن تجربة الحياة على الارض كانت فاشلة منذ اللحظة الاولى. أما نحن فنقول : إنتقل الى جوار ربه. لكن أيّ حمار ركب الى هناك ؟

يقول : تقبيل حلمة نهد المرأة يساوي العالم ، وآخر يقول : تأملُ تفاحةٍ مغسولة بالماء البارد هو الحقيقة. فالشعر تطرف وتعصب. عناد انساني مؤثر. الشعر يرقد في المستشفى في آنية الزهور قرب رأس المريض. السرير رمز. الزهور إيماءة وداع خبيثة. كانوا يقولون إن الشعراء يحرثون الهواء من أجل كفن أكثر كرامة من التراب. وكان بودي ان أنتمي بدل ذلك الى طائفة المنتحرين. نقول : شنق نفسه. ونؤلف كتابا عن العبث. وكنت أقول لابد من أن نقيم عرسا نرقص فيه عراة.

ومن يطيل التفكير بالموت يكتب قصيدة. ومن يطيل التفكير بالشعر ينتهي بالموت. ومعنى شاهد القبر : كان . ومعنى القصيدة : كنتُ.



هلسنكي – كانون الثاني 2008

خمسون رواية في دماغي






كانت السماء تمطر...

في طفولتي ، في عام 1983 سقط جناح طائرة حربية إيرانية على الزقاق المجاور. الدفاعات الارضية أصابتها من بين خمس طائرات أغارت على حقول النفط. جزء آخر من الطائرة سقط في مزرعة للبطيخ الأحمر. كنا نعيش في حي حكومي في مدينة كركوك النفطية. بيوت بنتها الحكومة للمنتسبين الى الجيش وفق تصميم واحد : غرفة نوم وغرفة استقبال وحمّام ومرحاض وحديقة خلفية صغيرة. كان الكبار يتحدثون عن بنت التصق مخها بالجدار إثر سقوط الجناح الذي سدّ الزقاق وهدم واجهات بعض البيوت. كل أطفال الحي سمعوا بمخّ البنت. قال ولد في المدرسة إن جسد البنت طار عاليا الى السماء من دون رأس ولم ينزل. بعد حادثة الجناح أخذت أغيّر طريق العودة الى البيت وأنعطف الى ذاك الزقاق. أستجمع انفاسي ثم انطلق قاطعا الزقاق بأقصى سرعة لمشاهدة مخّ البنت. لكني لم أره في كل مرة. كنت أزيد من سرعتي من غير ان التفت الى الجدار حيث مخّ البنت الذي كما سمعت كانوا قد أخذوه من هناك. كان الخوف يدفعني الى الاقتراب من مصدره والهروب منه في الوقت نفسه.

السماء تمطر. خمسون رواية في دماغي، لكني لا اقوى على كتابة قصة قصيرة واحدة. ليست السماء ولا المطر هما الاعجوبة. الاعجوبة هي اننا لا نزال نكتب عن ذلك من دون خجل. ماذا يعني أن السماء تمطر. هي كذلك، منذ وصول القرد الاول الى الكهوف. بالطبع قبل وصوله كانت تمطر، لكن لم يكن هناك شهود. لهذا يمكن القول إنها لم تكن تمطر الا بعدما خافت القرود. ما الفرق إذاً بين أن تكتب لقارئ أو أن تكتب لنفسك. لا أريد أن أشغل اسطوانة " لماذا أكتب " وأتحدث عن نافورة العبث الخالدة. أنا أبحث عن الفارق الذي لا أهمية له. الفارق بين أن تعيش من أجل الكتابة أو أن تعيش الكتابة من أجلك. العالم جميل، شاسع، ومخيف. لذا لا أقوى على النهوض من سريري. أنهض من أجل أن أكتب: أن أبطئ من نزيف الدماغ. رواية سميكة قد تكتب في ثلاثة أعوام أو ستة أشهر، في حين تذكر أيّ تخيّل لمثل هذه الرواية لا يحتاج سوى نصف ساعة أو أكثر بقليل. الكتابة آلة تعذيب لأنها تبطئ من عمل الذاكرة، محاولة قطنية لسد الثغرة النازفة في الدماغ. ولك أنت حرية الخيار: إما أن تتحمل مخالب ألة التعذيب وإما أن تحيا مرعوبا من فكرة أنك تنزف بلا توقف. لكن هل كتابة رواية أهون من تحمل الوحدة. الأرق الذي يعزف ليلا مثل هندي ينادي أفعاه. تفيق الذاكرة ثم تتلوّى مثل إعصار ضلّ طريقه في قرية فقراء، والسماء تمطر. يا للقرف. تمطر. علامَ تدل بالتحديد عبارة "السماء تمطر". ثم ما الذي تمطره: طين، قنابل، بلغم، حيرة، ضفادع، حالوب؟ هل يعني ذلك أن الماء ينزل من الغيوم، والبول يخرح من بين الافخاذ، والخراء يصب من المؤخرات، والطائرات تقصف ثم تسقط من السماء. كرهتُ قراءة الروايات بسبب هذه العبارات والصور التي تتساقط بلا رحمة فوق كل شبر من الارض. تمطرعلى عظام افريقيا، تمطر في رحم امرأة من الارجنتين، في قصص قصيرة من اليابان، تتغوط السماء فوق بغداد من دون ذنب، تمطر في رواية هندية لتغرق الاغاني الحزينة. تصالحت مع الشعر الغامض والرديء للتمتع بحل مغزاه ككلمات متقاطعة بدل كل هذا المطر. السينما أمرها يسير ويمكن فهمها من دون وجع الراس. هي مجرد فن للتسلية. أرجو أن لا يغضب السينمائيون، فقد ذكرت أنها فن، والتسلية فن، مثل عبارة " السماء تمطر". فالإثارة التي يتسبب بها جناح طائرة ايرانية ستتضاعف في السينما وحين يهوي برفقة المطر، بينما ما يهوي في الذاكرة يبقى غامضا مثل رسوم الاطفال. الآن من جديد: ما الفارق بين الأمرين، إن بقيت جالسا في سريري أتذكر مخ البنت الملطوش على الجدار، وأن اتوكل على الله وأنهض من سريري للكتابة عن المخّ. إن تذكّر مخ البنت قد يحتاج الى كتابة عشر صفحات. الصفحات العشر تفتح بابا آخر للتعليق على الصفحات العشر الاولى بعشرين صفحة أخرى، والعشرون تفتح دربا ترابيا مهجورا للعودة الى الماضي الأبعد بخمس عشرة صفحة أخرى. الماضي المهجور يفتح نفقاً صوب التأريخ. التأريخ ينقلب على بطنه ويحتاج حينها الى مائة صفحة لوصف بطنه. إيضاح هذا الحادث بحاجة الى خمسين صفحة للإشارة الى حكاية معاصرة كدلالة على الحادث. الدلالة بحاجة الى جيش من المهندسين لفك شفرتها. والمهندسون حكاية أخرى تقود الى الاطباء الذين أشرفوا على علاجهم النفسي، وهكذا الى أن يتم بناء ثلاثة أهرام متماسكة ومعجزة من فن الثرثرة: خافوا وتغوّطوا وماتوا. قلتُ إن الهرم فن، والثرثرة فن، مثل ثرثرة السماء المائية ومنذ شهود الامس حتى قرود اليوم. لكن أليس مرور المخ المحترق في ذاكرتي مثل نيزك مشؤوم أرحم من اصطياده بشبكة الكتابة. حسناً، ماذا لو لم يكتف مخ البنت بالمرور، والتصق في مخي الى الأبد. حيوان عاقل سيفضّل اصطياد النيزك ونزع ريشه في مزبلة الكتابة. المزبلة فن، كقاذورات السماء التي تتجمع في قلبي.

أظن أن السماء لا تزال تمطر. اليأس والسماء كلاهما ُيمطِر اللحظة. أدخل الى الحمّام. أمسك قضيبي وأنتظر. نسيت مخ البنت. اثناء خروج البول تذكرتُ مخ أبي الذي سكت في ظهيرة تموزية قبل أعوام. ما الفارق بين أن تتذكر وتتبول والسماء تمطر وبين أن تكتب عن ذلك. أمنيتي أن لا يكون هذا الفارق مجرد حاجة قطنية للتضميد وإلا لن أقوى على كتابة سطر بعد اليوم. في السرير أحاول تذكر ما قاله الكتاب الشهيرون عن مهنة الكتابة. ما الفارق بين الروايات التي ُكتبت والتي لم ُتكتب بعد. إنه شبيه بالفارق اللامرئي بين الأحياء والاموات. بين كل ما كتب وما سيكتب من جديد. أكيد أني سأتبرع بجلدي إذا كانوا بحاجة الى قطعة قماش لخياطة راية الفشل. ما أن عدت للاختباء في سريري حتى اشتد المطر في الخارج، تخيلت أن البنت تجلس الان على مقعد المرحاض من دون مخ تنتظر عودتي. اظن ان البنت تشعر بالوحشة وهي بحاجة الى رفقة. لا تقلقي يا صغيرتي، في ذاكرتي ألف مخ ومخ مهروس. سأجلب لك من صبيان بغداد اليوم رفيقا لم يتبقّ من جسده سوى رائحته في حضن امه. إن كانت الذاكرة معدة متخمة بالرعب، فالمخيلة طاحونة لا تشبع، هي الدجاجة التي تواصل نقر الارض حتى لو كانت خالية. لكن هل الكتابة عن هذا الموضوع بحاجة الى وقفة تأمل أم وقفة اخرى للتبول والتذكر. يمكن سؤال الطبيب عن ذلك أو البدء هكذا بكتابة رواية : كانت السماء تمطر...

هلسنكي - آيار 2007

صورة فوتوغرافية للمرأة التي دخلت المقبرة عارية








حين أصغي الى الماء الذي تغتسلين به في الحمام تستعد مخيلتي لرسم خطة أخرى لتلطيخ جسدك من جديد. ابدأ برسم الأشياء البليغة التي تدعكين الآن بأصابعك. سأنفخ فوق بظرك مرة أخرى مثلما ينفخ على الجمر ، ثم أصب فوقك من برميل عصير العنب. سألعق شرايينك حتى تبلغين الهيستريا. ستنامين ليلة ناعمة في غيمة أنفاسي. وحين تفيقين آخذ بشم جسدك العاري، المخمَّر منذ ليلة تحت شرشف برتقالي. لكن هناك شفرة الموت التي تجرح ذهني. ويحدث لي خلط بين اللذة والألم. يمتزج في قلبي الماء بالطين. وفي مخيلتي ترتفع مدخنة من وسط حفلة جنس جماعي.

أمراة عارية ، هي قضية شعرية تعني لي الكثير:
الموت كئيب الى الحد الذي لايطاق
ضرب المرأة أثناء ممارسة الجنس رياضة أخلاقية
ضربها الرجل رياضة واقعية
مضاجعة نساء بمختلف الأعمار فيه عافية و بركة
للزمن في سن العشرين مذاق هو غيره في سن الخمسين
الفارق كبير بين الفخذين
الموت حارس يراقب الجسد
الروح لص لا يجب معاقبته
والرغبة حصان يجب عدم ترويضه في مزرعة
تأوهات المرأة العارية يجب أن تطبخ في عدس الفقراء
خيانة المرأة التي تعشق هو فن الخوف من الموت في بعض الأحيان
خيانة وطن هي قضية مدرسية صغيرة
خيانة الشعر قضية مضحكة
خيانة الروح لا تغتفر
خيانة الروح قضية لا تنفعها قاعات المحاكم
أقول ايضا بأن مشهد المرأة العارية هو فأل حسن
والمني المخلوط بالحب قضية مخترَعة
تلتصق بجسد المرأة كي تثبت أن جسدك موجود ايضا
الله قضية معقدة مازال هناك مناضلون من أجلها
الله غير مسوؤل عن قضية الخيانة
الله نادم لأنه عاطل عن العمل – ليس لديه قضايا ملحة
الخيانة رياضة روحية لأكتشاف أسلوب انسانيتنا
مع أن مذاق الزمن يختلف،
لكن تقبيل فتاة صغيرة هو لذيذ مثل تقبيل سرّة أمرأة في سن اليأس
لنقل بطريقة كسولة إن الموت مائدة خشبية
والمرأة العارية زجاجة عطر
والزمن حكم ُ ملاكمة وهمية بين جسدين عاريين

في مضاجعة البارحة ، هل شهقنا سوية مثل وليدين من بطن واحدة ؟ كنت أدفع بحبٍ وأنتظر عسل دمك المصحوب بصراخ الغابة. كنت أفكر: أنا ريح وأنت طاحونة قمح. كنت أجمع الفراشات من بظرك بطرف لساني. هذه الصور، غير موجودة في ألبوم الموت يا حبيبتي. حلمة نهدك حين تتجمر بحاجة الى صورة فوتوغرافية. علينا ان نحتفظ بجميع صور الحب في دولاب العبث ونغني. الموت ياحبيبتي ، قضية عادلة. أحلم ان السماء تمطر فوق قبري. وأحلم ان نهديك يصرخان حانقين في وجهي. الأحلام قضية نبيلة بحاجة الى حفظها في ثلاجة الليل من أجل أن لا يتفسخ النهار.

إنطباعات شخصية عن الشعوذة











لطالما تحسرت في حياتي على إمكان الإمساك بإحساس المحتضر أثناء الكتابة. أن تكتب كأنك ستموت ما أن تضع النقطة الاخيرة. لكن مثل هذا الإحساس لم يكن في متناول اليد وفي مثل هذه السهولة، فالحياة ندٌّ للموت، ولا يمكن أن تسمح لكائن لا يزال يتنفس ومهما تكن حدة يأسه، بالوصول الى مثل هذه العتمة الخالصة. فلا بد لها ـ الحياة ـ من أن تترك برعما صغيرا من الأمل في قلب الانسان: أن تحول دون أن يتسوس نهائيا. هي بكتيريا مضادة غير مرئية: بكتيريا الوهم. ثم تبددت فجأة من سماء حياتي هذه الافكار الصغيرة عن الكتابة. ذات مساء شتوي بارد وانا في طريقي الى هجر السينما التي حاولتُ الكتابة من خلالها أيضا لكن من دون حظ يُذكر، تعثرت بوحشة مرّة، كانت ملقاة على قارعة الطريق، ضحكت كثيرا ثم صمتُّ فجأة كعبقري مزيّف: الكتابة هي مجرد صالة متواضعة لممارسة الشعوذة، وليست ماكينة لصنع الحياة أيها الأحمق! وهكذا، أعيش حياتي اليوم مثل من يحاول أن ينفخ روح زهرة في جسم ضفدع. ومن يدري بأي حفرة سأتعثر في صباح الغد. الدروب بالغة الغموض ومصابيحها محض خدعة مسرحية.


•••



أن تكتب، يعني أن ُتخرج الإحساس الى الهواء في حالته المسخ، وقبل أن يمر بالدماغ وقبل أن يصل الى الورق. أن تخرج تلك الدودة من قلبك كما هي، طرية تفوح منها رائحة الدم الملوث، من دون خجل ومن دون أن تلبس الدودة ربطة عنق أدبية. والأجدر أن تكتب في زمن السلم بهذه الطريقة أيضا. هذا ما قلته لصديق يحب اللغة أكثر من الشعر. ومن قال له إن الشعر يكتب بالكلمات فحسب. الشعوذة هي علم الاحلام وليست فن الكلمة.



•••



خراء ... خراء ... خراء ... خراء ...



الكل يريد أن يعرف لم ألطخ الورق كثيرا بهذه الكلمة المقززة. لقد أخبرتكم بأمر المرحاض ألف مرة. ماذا ، هل أنا مصاب بإسهال ، ألا يمكنني استبدال هذه الكلمة بكلمة أخرى تؤدي الغرض نفسه لكن برائحة مكتومة على الاقل ؟ اليكم السر الذي لم يعد سرا ، فقد كشفته لك ولهم في اكثر من مناسبة خرائية



– ها أني أعودة الى الرائحة القديمة ...



قال لي مرة رجل عجوز مصاب بالبواسير : الواقع هو قوتنا يابني ، ولا تهم الطريقة التي ستكتب بها عن هذا الواقع. ثم واصل العجوز ترديد كلمة يابني... يابني ... يابني ، وهو يبتعد كي يختفي الى الابد.



لم تكن هناك اي علاقة بين بواسير العجوز و ماقاله عن الواقع. لكنني شعرت حينها بأني ـ نيوتن ـ الذي وجدها. شكرت الرجل على هذه النصيحة ورجعت الى البيت وأنا أعدو وأتصبب عرقا ، جلست الى الطاولة وإتخذت قراري : أن أكتب طوال حياتي بهذا الاسلوب : أن يكون الواقع طعامي و لا احتاج إلا الى أسنان من حجر ومعدة قوية ومخرج ضيق للشعور بقيمة ما يخرج. هل فهمتم يا أصدقائي ؟ أنا لا أفعل شيئا سوى هضم طعامي جيدا. أنا بريء! وكل هذا الخراء هو ثمار الواقع. وأنتم قد لا تأكلون بل تعيشون على الهواء فقط...



•••



- عن أي قضية تدافع هذه الايام؟



ـ عن النوم.



- لماذا؟!



ـ حين ينام الاحياء يشعر الاموات موقتا بالعدالة.



- لكنك مصاب بالأرق!



ـ لكي أثبت تفوقي على الاموات.



- متى ستتوقف عن الكتابة؟



ـ حين أنام.



- يمكنك أن تستعين بعلاج من طبيب.



ـ لا، هذا تزوير للسلام.



- تتحدث عن السلام، لكن عن أي حرب تتحدث هذه المرة؟!



ـ أكيد، إنه قتال مرعب.



- تقصد ضد الحياة أم الى جانب النوم؟



ـ الى جانب الحلم أيضا.



- لا أفهم!



ـ الحلم هو دودة في دماغ النائم، وتختلف عن الدودة في جمجمة الميت بقضية العدالة. الاولى تريد أن تفك شيفرة. والثانية تريد أن تثبت عبث محاولة الاولى، لهذا فكل انسان هو من برج الميزان. عاطفي، أحمق، رخيص، قبضة هواء.



- الا تعترف بأنك تناقض نفسك كثيرا في كل ما تقوله وتشعر به؟



ـ استخدام كلمة تناقض يدل على تفاهة صحافي طائش مثلك. هل تريد إلزامي أن أعيش مثل تمثال حجري وسط ساحة عامة؟ حتى كومة الحجر هذه، تملّ وتتعب وتغيّر لونها وتشحب، وحين يعيدون طلاءها يتحقق المزيد من السخرية، ورغم أن الزمن سيمدّ لسانه على الدوام في مؤخراتهم، كلما حاولوا الضحك بسبب أو من دونه.



- حسنا ، اخبرني لِمَ ترتاد معارض الرسم في الليل والنهار؟



ـ بحثاً عن الطريقة التي سأموت فيها. كدت أُقتل أثناء هربي عبر حقل عند حدود بلادي كان نسخة طبق الأصل لحقل فان غوغ. وقبل أسبوع عثرت في لوحة على مجموعة من الألوان تشبه ورما سرطانيا ينتفخ في قلبي. أؤكد لك مرة أخرى أن الرسم مثل الحلم، نبوءات مشفّرة.



- ما هو جديدك؟



ـ كلمة جديد تذكّرني بحاضنات الاطفال في المستشفى، المواليد الطرية التي ستلتحق في نهاية المطاف بالمقبرة القديمة. مع ذلك أنا أكتب في رواية تاريخية تتحدث عن سيرة الناس الذين تغوّطوا في سراويلهم من شدة الفزع، حدث لي هذا أكثر من مرة. لا أقصد هنا أيَّ رموز في هذا الكتاب.اعني بول وخراء طازج يدفعه الرعب الى الخارج.



- يبدو أنك ضجر جدا. ـ شكرا لك على هذا الاطراء الذي لا أستحقه.



- كلمة أخيرة منك.



ـ خراء.

مياه العميان






تلقيت قبل ايام رسالة من كاتب منزعج يشرح لي طرق الكتابة المعاصرة بنبرة دينية. أظن أن قلب الرجل يتفطر وجعا على طريقة كتابتي المنوية. خمنت ايضا انه من الكتاب المسالمين الذي يكتبون من اجل الدخول الى اكاديمية الكتابة العربية النظيفة. النقية. المهروسة جيدا في مطحنة النحو. اظن ان الرجل حارس لغة مخلص وذو نية شريفة. لا ادري كيف سيكون حال اللغة وبقية الابقار المقدسة من دون هؤلاء الكتاب. اعتقد انه لو تركت الامور لكتاب على شاكلتي، لحلبوا البقرة حتى اخر قطرة وذبحوها في منتصف الظهيرة على مرأى العبيد. ما ازعجني حقا في رسالته نبرته التطبيبية ، إذ ماعلاقة جروح البلاد التي تطرق اليها في رسالته بما اكتب. ثم من قال له انني اكتب من اجل انقاذ حياتي. افضل ان استمني من دون إنقطاع على ان اداوي حياتي بالكتابة. انا اكتب عن حقد فحسب يارجل. ثم هل يمكن لكحال مسكين ان يشفيني. الله يرحمك يا ابن زكريا الرازي ! ابن القحبة منصور السماني اساء معاملته بوقاحة لا تغتفر. أمر بضرب الرازي بكتابه الى أن يتحطم رأسه أو يتحطم الكتاب. فالرازي المسكين فشل في بعض ابحاثه الكيميائية التي طلبها منه السماني. ظلوا يضربونه الى ان فقد بصره. و حاول ( كحال ) مثل اخينا صاحب الرسالة مداواته. جلب بعض الادوية لمعالجة بصر الرازي. غير أن أبا بكر بن زكريا سأل الكحال قبل أن يوافق على مداواته ، عن طبقات العيون. أجاب الكحال انه لايعرف شيئا عن هذه الطبقات. اجابه الرازي بحزن : انه يفضل ان يفقد بصره على ان يداويه كحال لا يعرف عن أنسجة العيون شيئا. أنا اعرف ان غضبي من رسالتك سيحشرني معك في واجهة الغرور الزجاجية نفسها. لافائدة من الصراخ في القصائد : انا صرصار ، لتحقير الذات بذريعة التواضع. كل من يريد ذلك ما عليه الا ان يفيق ممسوخا ويتدبر مأزق يومه مثل المرعوب كافكا. صدقني يمكنني ان اتفهم الحكمة الأمومية التي غلفت نبرتك في الرسالة يا صديقي. اعتذر منك حقا. لم اقصد السخرية. انت تعرف مثلي جيدا هذه الحكاية المكرورة : رجل تجاوز العقد الثالث من عمره يظن انه امسك بجوهر اليأس. واخر في منتصف الرابع يضحك منه. ومن في الطابق الخامس يسخر من الرجل في الرابع وهو يبصق ويتمتم : اليأس دمٌ يطوف في دمي. أما الرجل الذي هو في السادس فيكتفي بهز يده على ما يتوهمه هؤلاء الرجال . وهكذا كلما صعدنا السلم زاد اعجابنا بانفسنا كحكماء ومعلمين. صبي في العاشرة من عمره هو اليأس بعينه. الفارق الوحيد بين الرجال وهذا الصبي الجميل هو نهر الموت. الرجال يغرقون بينما الصبي تلميذ مازال يقرأ فيه. سمكة مازال النهر مدرستها. لا ادري ان كنت تعرف الكثير عن عالم الاسماك. حسب مافهمت انك مشغول هذه الايام بكتابة قصيدة ستثبت فيها إعجاز اللغة العربية ، وقرب وسادتك تنام المعاجم السمكية. الله في عونك. لكن السمكة في الطبق الذي امامك تهمني أكثر. ارجوك ، تاكد من ان السمكة ليست من جنس ( سمك الرئة ). هذه الاسماك تنحدر اصولها من ماقبل التاريخ. لك أن تعرف بأني أحسد هذا السمك على ارادته الشعرية. تخيل انه قادر على التنفس حتى حين تجف البحيرة. يختبئ في الوحل ويظل حيا الى ان ينزل المطر مرة اخرى. اعتقد ان الانسان لايختلف كثيرا عنه في القدرة على التمرغ في الوحول من اجل حفنة هواء قادمة. لا اتفق معك كثيرا في هذه المسألة. فحركة الانسان الدفاعية تخلو من الزهد والتنسيق. إنها مجرد حركة عشوائية ـ دموية. وفي كثير من الأحيان لاتتعدى حقيقة وسائلنا الدفاعية حدود رغباتنا الدفينة في الانتقام.
تقول : لماذا لا تصطدم السمكة الملونة بجدار حوض الزجاج الذي نربيها فيه رغم انها لا تبصر !
إبتسمت: انها في هذه الحالة اقرب الى الخفاش. لهذا النوع من السمك حبل عصبي يمتد من الدماغ عبر فقرات الظهر. بعدها تتفرع هذه الاعصاب على جدران الجسم الى نقاط حساسة تشكل فيما بعد مايسمى بالخط الجانبي. من خلال هذ الخط يمكن للسمك ان يلتقط الذبذبات في الماء ولذلك لا يصطدم بأيّ شيء. أطفأت المصباح وأردت ان اعثر على نفسي في الظلام لكنني بالطبع ارتطمت بالحائط. فأنت سمكة غير مجهزة ببوصلة. أضاف قائلا بصوت محرج : ماقيمة النظر اذا كنا نعيش محكومين الى الأبد في نفق عالم مظلم ! حسنا ، الجواب عند سمكة اخرى. ستجيبك هذه المرة سمكة صغيرة بكل صراحة. انها سمكة الكهوف التي تنتشر بكثرة في المكسيك. فحين تولد، وفي مرحلة الطفولة بالتحديد يكون لها عينان طبيعيتان ثم ينمو الجلد حتى يغطي العينين. وعند البلوغ تصاب بالعمى. في الحقيقة هي لا تكترث بالجلد الذي ينمو ولا بالعمى، فما جدوى الابصار إن كانت تعيش طوال حياتها في كهوف البحر المظلمة. هي تعوض عن ذلك بقدرتها على الشم والذوق تماما كما عاش بورخيس السمكة. غالبما يمكن تصنيف قوة النظر عند الاسماك المبصرة وفق طعامها . فالسمك الذي يتغذى على النبات يكون نظره ضعيفا جدا. اما المفترس فيكون نظره بالغ القوة. وهذا الامر ينطبق على التباينات في نظر الكتاب. اطفأت سيجارتي على الحائط وأضفت : عالم كـأنه زريبة ! لاادري لم لااعثر في كل مرة سوى على هذا الحائط امامي. وبورخس اصابه الهلع بسبب توغله في كهوف المكتبة. لقد تعرف على الكثير من هيئات النور والظلام ، وكلها لا تطاق. لجأ الى اللعب واستغنى عن فكرة ان يكون قرش بحر أو روائيا. بصقت على الحائط من جديد ، قبل ان اخرج واترك الباب مفتوحا. وهذه من عاداتي الدرامية. الباب المفتوح والبصاق.
والآن لنعد الى المعجم الذي بين يديك. لاتنزعج بسرعة ، ارجوك ، فأنا اشك ايضا في امر هذا المعجم. أكيد أن هناك مئات الطبعات الجديدة والعتيقة من المعاجم المطرزة بالتراب. يستعين بها الكثير من المحتاجين والفضولين والقتلة لتفسير اقصر وادق السبل. لكنها لا تعدو كونها طبعات مزيفة منسوخة. كل معجم لا يشيد من طبقات المياه البركانية، هو كتاب يدعي اكثر مما يفسر. والمعجم الاعظم هو الذي لايفسر بل يضاعف اللهفة كما تعرف. المعجم احجية سحرية للحفاظ على اللذة ودوار الرأس. مثلا لايمكن الايمان بتفاسير الغرق المتوارثة. يغرق القراصنة حين تثقب سفنهم بمدفعية قراصنة آخرين. ويغرق السمك حين تكتم انفاسه بشباك الصيادين. الداخل الى البحر يغرق، والخارج منه يغرق أيضا. وهنا يكون كل حديث عن النجاة أحتيالا تقوم به المعاجم الدينية. وكل حديث عن الغرق ومغزاه ليس إلامحاولة مكرورة ومقرفة تقوم بها معاجم الفلسفة. يبقى لدينا الشعراء وهم الأكثر دجلا في الحكاية. فهمُّ الأول ، والأخير هو المعجم بحد ذاته. هم يتبارون بالطبعات فيما بينهم ولا يتوانون عن قتل كل مايصادفهم من اجل طبعة جديدة. أكيد أن القشة تبقى الأمل الاخير وحركة شعرية خالية من المراوغة ، إنها الوهم والحقيقة ، القشة جملة مائية من ألف صفحة وصفحة !
أبدل الطقس فكرته فجأة. ظهرت الشمس وبقيت الشوارع مبللة بأمطار الصباح الغزيرة . تسارعت حركة الناس قليلا وزادت السيارات من سرعتها. فكرت ُ : يمكنك الآن ان تعثر على من يبتسم من دون سبب. امرأة عجوز أغلقت مظلتها بعد ان مدت يدها اكثر من مرة خارج المظلة للتأكد من أن المطر قد كف عن الهطول. الحياة من واجهة المقهى الزجاجية تبدو اقل عدائية، وكأنها تسير حسب الخطة المتواضعة التي رسمت لها، قانعة راضية. توقف شاب يغطي عينيه بقبعة كبيرة وهو يتلفت وكأنه فقد شيئا. نقل الحقيبة من يده الى ظهره ثم خرج مسرعا من اطار واجهة المقهى صوب اليمين. مياه الأمطار تنزل عند حافة الرصيف حاملة معها نفايات الناس الى الاسفل. غيمة عملاقة بدأت تنزاح و أعطت للشمس مساحة اكبر. لم نر الشمس في السماء. راقبنا اشعتها وهي تنتشر ببطء في زجاج نوافذ تلك البناية العالية. بعدها بأطول من ساعة لم يحدث اكثر مما يمكنك ان تتوقعه ان يحدث حين تراقب الحياة من واجهة مقهى. مع ذلك فقد حدث قتال خاطف في الداخل انتهى بسفك دماء بشعة ذات رائحة كريهة ومقززة ، شبيهة برائحة دم الولادة الذي يصبغ رأس الوليد. طلبت علبة سجائر وكوب قهوة آخر. أردت ان امد الداخل بأكبر قدر ممكن من دخان السجائر. خشيت ان تنتهي العلبة اثناء القتال ( وبين احساسين ضاربين في القدم ). كنت معلقا بين اليأس والهلع. حينها كانت السماء تمطر بحقد. اخذ الداخل يغرق لكن المياه لم تصل رأسي. وفي عين رسام سوريالي يكون الرأس على رقبة نعامة. الرقبة تدور فوق سطح المياه مثل عين الغواصات الحربية باحثة عن نقطة ضوء. عن بصيص امل...
مرت ثلاث ساعات.راقبت عودة ظلال الغيوم الى نوافذ البناية العالية. رجل قميء القامة مدّ يده ليتأكد من سقوط أولى قطرات المطر. فتح مظلته وسار متجهما. عادت الحركة الى الوراء مرة اخرى. مطر. مطر. حقد . مطر. رقبة النعامة أخذت تسير بحذر وحيدة على الرصيف بخطوات رجل اعمى. لا... لا ، لم انشغل عنك يا صديقي. كل مافي الامر انني نزلت الى المقهى للكتابة اليك. لكنها كما ترى امطرت من جديد. لقد تأخر الوقت. ساكتب إليك هذه الليلة. لكن قل لي اين انتهينا ! اظن انني كنت احدثك عن طير عملاق عجيب. نعم ، تذكرت. هو طائر ضخم الجثة يسمى بالعربية : ( الصخاب ). يبلغ طول جناحيه خمسة عشر قدما ، وله صوت قوي مثل نفير يوم الحساب. إنه طائر حالم ومرعوب أيضا. قادر على الطيران ساعات طويلة دون توقف. ويقال انه ينام أثناء طيرانه. وعلم النفس يجد حالة هذا الطائر موازية لحالات المصابين بالفصام لكنهم لم يجزموا بذلك فمازال هناك متسع من الوقت قبل التأكد مما يعانيه الانسان بالتحديد قبل التوغل في اسرار طائر البحر. نحن بحاجة الى المزيد من المختبرات. عليهم ان يتوقفوا عن اجراء الاختبارات على الفئران وإلا سيفوت الأوان. علينا ان نشرع في تجارب مختبرية بطريقة مباشرة على الحيوانات من فصيلة البشر. علينا ان نعرف انفسنا قبل ان تلتهمنا الكارثة التي سنتخيلها ونسببها نحن لانفسنا. هناك حاجة الى المزيد من المتطوعين ، للوصول الى منابع الورم الانساني. هناك حاجة ملحة اليوم الى جنود فئران. ولاضير من جر الناس عنوة الى المختبر ومثل هذا الطفل الذي يركض في الحديقة العامة. يمكن ان تلخص حكاية التحليق بطريقة واقعية اذ ما فحص ريش الطفل بمجهر محايد. اقصد من دون شفقة أو تردد ! اما طائر البوم فعثرت على احد اجمل انواعه في كتاب الامتاع والمؤانسة. إذن اصغ الي : في ليلته العاشرة يصف ابو حيان التوحيدي في كتابه الرائع هذا ، طائر البوم كما لو أنه يلخص حياتي :
( البوم : مأوآه ومحله الخراب، يوافقه الليل، لانه بالليل بصير وبالنهار كليل، مع حبه للتوحد والخلوة بنفسه ، وبينه وبين الغربان عداوة ٌ ما تنقضي ).
أنا ادعي النسيان خوفا على ماتبقى مني. الساعة هي بلا حراك منذ الثانية عشرة وخمس دقائق.رغم ان ضوء الفجر يتمازج ببطء في زجاج النافذة المتسخ. ربما توقفت الساعة نهار البارحة او ليلا قبل يومين او قبل ان تمرض. في الثانية والثلاثين من عمري ارقد في هذه اللحظة وحيدا في شقة صغيرة بعيدة كل البعد عن الاشخاص الذين مازالوا يتذكرونني. في الصورة التي تلطخت بالمني، امرأة زنجية عارية ، تفرك بظرها بأصبعها وتفتح فمها مثل سمكة مرعوبة. غسلت زبي ، ثم عدت الى السرير، وبيني وبين الماضي عداوة ماتنقضي. في الثالثة والثلاثين. فجرا. في الثانية عشرة وخمس دقائق على الحائط. الان. استلقي وحيدا. اكتب قصيدة خالية من الشعر. اكتب هيكلها العظمي. اخرج المني لئلا يفسد،. اعد فطوري. بيضة غراب وقهوة. الشمس تصعد. ظلام يهبط. اين انت. انا لااراك. اشاهد في المرآة سمكة قرش تستلقي في السرير. اظنها تنام في مكاني ، ياللوقاحة ! ساكتب إليك غدا ، حين اشتري لزمن الحائط بطارية جديدة ، وللنهر سمكة ستنزل فيه مرتين. هل ستصدق هذا الشيء أم أنك ستتهمني بالجنون هذا المتاع الإحتياطي في حياتي ؟ تحيتي وكن أكثر حكمة من السمك و الأنواع الأخرى من مملكة الحيوان.

شكو ماكو




شكو ماكو؟
ذراع هنا ولطم هناك

شكو ماكو ؟
دم هنا وبرتقال هناك

شكو ماكو ....
كان نعشه خفيفا فوق الأكتاف. وكان بأمكان الريح حمله كقشة الى النهر. لكنهم سافروا به الى مقبرة النجف. لم يكن في النعش سوى ذراعه اليمنى الموشومة بقلب حب يخترقه سهم كبير. هذا ماتبقى منه حين انفجرت السيارة في السوق. كان البائع يملأ له الكيس بكيلو من البرتقال. بائع الفاكهة تدحرج رأسه مع الرمان. كفنوا ذراع الرجل ودفنوها هنا في التراب. في الليل وضع الدود خطة محكمة لأكل قلب الحب من دون أن يغصّ بالسهم. تحدثت في البدء دودة معمّمة عن عظمة الايمان بالله. ثم ألقت دودة شاعرة قصيدة مديح عن التراب والعدم. ثم تقدمت دودة لها شهادة عالمية في الطهي وجاءت بالسلطات. دودة بعيدة عن البيت، تقتات من الغربة، كتبت مقالا حماسيا تتهم فيه الدود بالخيانة وتغنت بالدود - المقاومة. وأكل الدود طوال أسابيع معتمة بانتظام واخلاص. وفي الأخير نزلت الملائكة ولم تعثر كالمعتاد على شئ. دوّن الملاك الطيب: هنا رائحة برتقال. أما الملاك الشرير فكتب : هذا هو إبنك الانسان.


شكو ماكو ؟
يجب بناء المزيد من المحاكم بدل طباعة الصحف
مع أن العدالة سلحفاة مصابة بالشلل النصفي

شكو ماكو ؟
صحيح أن الكتابة ليست قطنا طبيا
لكنها بصمة قد يستخدمها المحققون بعد ألف عام
يمكن لهم ان يكتشفوا الرائحة في الحلم أو يصلوا الى دليل أساسي في قضية الانسان.

شكو ماكو ؟
حين اقول إني تحوّلت ـ ليلة أمس ـ الى زرافة ، لا أحد يصدقني
لكنهم يصدقون جميعا أن رأس طفل ـ هذا الصباح ـ طار محترقا من هنا الى هناك

شكو ماكو؟
وضعنا في المتحف عظام الديناصور وطاسة ماء حجرية مفطورة
ولم نضع الكراهية ولا الرعب في صندوق زجاجي للفرجة وإلتقاط الصور

شكو ماكو؟
المسرحية عنوانها العاصفة
والممثل هو طفل عار.
لقد مللنا من التصفيق والتبول في سراويلنا ...

شكو ماكو؟
ماكو شي ... سوى دم و صراخ ...

ذئب الحراسة






ينظرون إليّ في بار يعج بالسكارى بعد منتصف الليل، ينظرون إلى الدفتر الصغير الذي أكتب فيه عنك ايها الطفل ، ينظرون بغموض وتهكم ، ينظرون وكأنهم لم يسمعوا من قبل بمهنة: حارس.

لا أعرف أي قيمة للمكان،
أقدر الزمن، الذي هو البيت والزلزال
بينما تعشق انت الأسرة والدروب
أكتب من اجلك، أيها الطفل المريض
أزرع شوكة في ابهامي وأكتب
عن اصفرار بياض عينيك
أنت هرم جدا ايها الطفل
اعرف الحكاية: ريشة ، ريشة
هويتَ من السماء ممزقا من دون ذنب
لكنك أيها الطفل بدم يثير الشبهات
أيها الخاوي، يا كبد الأرض التالف
أنت يامن تنتظر عند الغروب بوق النهاية
أكتب عن السكاكين بدل المفاتيح

ـ باب مغلق، هو تعريف الوجود.

اقتفي، يا طفلا، آثار قدميك
بيدي أحمل شمعدانا وأدخل صالة النوم
أبحث عنك وسط أحراش الكابوس
ثمرة فارغة ، زهرة مقطوعة العنق
وهاهي أصابعك الماكرة من جديد
أنت قريب جدا من السعادة : في بعد تلك النجمة
أنا أعرف الغفران، لكني بإنتظار الزلة القادمة
مثل القتلة، أنتظر بمتعة وترقب، وإصبعي على الزناد
ايها الطفل الشرير...
أكتب عن الشجرة التي تسرقها
عن النهر الذي تلوثه
أكتب عن الغموض، لأنك حجر في بنيانه
أكتب من اجل أن تصمت
يا دمية الزمن التي أنتصبُ عند مهدها
أعوي من أجلك يا قبر الدود
أتنكر بزي راهب وأكتب عن مخالبي التي تشم خطواتك
سيطلع الفجر بعد قليل ،
سيعثرون على دليل آخر كي يكرهوا الشعر
سيعثرون على أنيابي مغروسة في رقبتك المكسورة مثل غصن يابس
ايها الطفل المسكين، يا ابن الخراف الوديعة
أفتحُ احشاءك على قارعة الطريق
لا تنزف ، لا تندم ، لا تبكي
لا تخجل ، لا تغضب ، لا تحزن
أكتب لك من اجل ان تبتسم
بل اضحكْ. انقلبْ على ظهرك واضحكْ
إرفسْ الهواء بساقيك وانت ترتعش
إرفسْ السماء ، ارفسْ الأشباح التي تخرج مما اكتبه لك
إرفسْ وأنا امضغ في جيفة لحمك
متْ ايها الطفل اليائس
متْ وأنت تحدق برعب
متْ، فهم قد خدعوك

هم ينظرون إليّ في شارع يعج بالاطفال، ينظرون الى قلادة الاوراق الذابلة حول عنقي، ينظرون ساخرين، متقززين، ينظرون الى دمك وهو يقطر من فمي. ينظرون وكأنهم لم يسمعوا من قبل : ذئب حراسة.

هلسنكي ، آب 2007

غناء شخصية كارتونية




ـ يمكن تلحين المقاطع الغنائية فقط اثناء القراءة


ـ بحشائش أو أغصان صغيرة يستر الصيادون قبعاتهم ثم يختبأون خلف الأشجار كي يطلقوا موتهم الخاص. الموت الآخر لايفعل ذلك، هو يتجول عاريا في المدينة وفي يده كيس زبالة. يرددون بعد الجاحظ أن الأفكار ملقاة على قارعة الطريق. أما أنا فعثرت على حجر غريب له شكل قلب حيوان مذبوح. أخذت أحمل الحجر وأصفر لحنا يقول :

تعال يا كناس العراة ، تعال وشدّ شعري من الحاوية ، تعال ....

أراقب سيارة أسعاف مسرعة. أنا في الطريق الى حلاق الروؤس. الأحمر والأصفر والأحضر ثلاثة عيون في رأس العمود. ثلاثة ألوان يمكن أن ُترسم الشمس فيها وهي تزرع الحديقة بالنور. لكن الأصفر هو عندنا لون التردد والمرض والجنون. أجتاز خطوط العبور، مثل تلميذ كسول. ويقولون أن الرجل هو الأسلوب. الأحمر هو لون الحب ومرات كثيرة هو لون الكراهية.، ثم أفكر بأسلوب الموت وإن كان هو أنثى. الحجر طفل بثوب أخضر عند حافة النهر. أضع صورة الطفل في جيبي وأصفر : الحياة يا حياة يا حياء الميت يا أحياء...

في المرآة يبلل الحلاق رأسي برذاذ الماء.أشعر بدغدغة أفكاري. ويقولون أن القصائد مجرد كائنات تحتضر. يتحدثون في قاعة مغلقة عن نهاية الشعر. وفي الصحف عن موته. يقولون أنه عصر الرواية والسينما. سيندمون بعد قليل ويطالبون بكتابة شهادة وفاة للسينما والرواية. سيقولون من جديد إنه عصر العبث، وإننا بحاجة الى أن نقرأ القصائد على سطح القمر كيلا يَجْمُد الأمل. الحجر يغني فوق سطح القمر: يا نور يا أرض يا عينيي يا ثور السماء يا ثور ..

أضعُ وصايا صفراء ، فأنا اصلع ولن يجد الحلاق شعرة واحدة في رأسي .

يبتسم المقص وهو يغني : الحياة حلوة بس نفهمها...

ـ تناول الطفل دواء أبيه فتسمم ورحل ـ لا تثقوا بالأباء

ـ شعرة في الحساء تركته يتقيأ ـ لا تدفعوا الحساب

ـ ُفقئت عينه في شجار بين رجلين ـ تخلوا عن فكرة السلام

ـ ُقتل جاره فأتهموه زورا ـ إذن كونوا قتلة بدل ان تكونوا ضحايا

ـ خرج بقميص صيفي عاد بمظلة مطرية ـ أضحكوا من الله

المهم أن تقفوا على أهبة الأستعداد. أرتدوا الأقنعة الواقية. احذروا من قضية الانسان الذي دخل جسد الحيوان الى الابد. مع السلامة. تحياتي. سجين يصفر في زنزانته : حتى الظلام ... أجمل في بلادي ... يحتضن ...

صدريات القصابين ملطخة بالدم.

هم رجال مفتولو العضلات.

لكن الموت ليس كذلك.

الموت رشيق وعار ونظيف وفي يده حقنة طبية كما أنه لايغش في الوزن.

عامل نظافة يغني عاريا :

أكنسكم يا عراة...

أكنسكم يا جبناء..

أكنسكم يا زبل الحياة ...

يا يا يا ليل يا ليل يا ليل المقبرة يا ليل ...

لهذا كله طلبت من الحلاق أن يضع على رأسي باروكة غوريلا ...


تنين الشتائم المريض







لتكن اللغة شحما فاسدا في برميل . وليكن الهدف ايماءة مجنون.

كل دعاة الواقع يجب ابادتهم بالحقن السامة واحراق نصف الحالمين.

رجل عاقل : ماهذا الهراء ؟

امراة طيبة : وقاحة ؟

الرجل العاقل ينيك المراة فوق مائدة الطعام في المطبخ. يسيح المني فوق فتات الخبز. اما الشحم الفاسد فهو لطلاء جدران هذا العالم. لا تتسرعوا ـ سنجمع هذا الهذيان بعد قليل في جمل مفيدة ـ ادوية مفيدة لامراض القلب والشرايين. جمل صحية يمكن تناولها في طبق فاكهة بعد ان ينتهي الرجل والمرأة من طعامهما المائي.

الكاتب : يضرط.

الان اليكم ملخص هذا المسرحية قبل كل شئ :

في الساعة السادسة صباحا طرق شرطيان باب البيت.قالوا لأمي كلمتين، ثم اتجهوا الى باب الجيران المقابل. هرعت امي الى الدولاب واخرجت عباءتها السوداء بعد ان ايقظتنا جميعا من النوم. نحن الان لمن لايعلم ولمن لايزال نائما ، في الاول من كانون الثاني عام 1985. حسنا ، ابتسموا الان ودعونا نلتقط صورة فوتوغرافية لكاتب هذا المشهد وهو في العاشرة من العمر.

خرجنا خلف امي نفرك عيوننا ونتثائب. خمسة فراخ باقدام صغيرة خلف العباءة السوداء ، وواحد ملفوف قرب الصدر، يبكي ويريد حلمة الحليب. كان هناك جمهور كبير يحتشد على اطراف الساحة الترابية التي تتوسط الحي ، الساحة التي كانت تنقسم الى قسمين في الايام الإعتيادية : قسم مخصص لزبالة الحي اليومية وقسم اخر يلعب فيه الولاد كرة القدم ، وهو القسم الذي يتحول ايضا في الليل بمساندة الظلام الى وكر للمراهقين لتدخين السجائر وشرب البيرة والعثورعلى اطفال شهوات سرية. لكن اليوم هو يوم غير عاد. والدليل على ذلك ، ان امي صامتة لاول مرة في حياتها. جنود فوق سطوح البيوت يراقبون جمهور الحي الذي استيقظ بامر صارم. شرطة امام الجمهور ، جيش شعبي خلفه ، رجال امن بينهم ، وشاة يراقبون العيون. جمهور وسط جمهور. جمهور داخل جمهور. جمهور خائف من جهور.

ـ ماهذا العمود الخشبي ياامي ؟

ـ اسكت يمة الله يخليك...

مثل عمود أرجوجة العيد لكنه قصير ووحيد من دون عمود يقابله ، اذ كيف سيربطون حبل الارجوحة. خلف العمود وضعوا تل ترابي صغير. وصلت سيارة عجيبة لم اشاهد مثلها من قبل. ماهذا التل الترابي ياامي ؟

همس احد المشاهدين : وصل القفص ـ يقصد السيارة العسكرية الغريبة. ُمشاهد اخر خلفه مد رقبته قليلا ، محاولا معرفة ان كان المشاهد الاول سيضيف كلمة اخرى بعد كلمة القفص التي تركها من دون ان يضع لها علامة تعجب او استفهام. التل الترابي يمنع الرصاص من الوصول الى ابواب البيوت في الجهة الاخرى - همس اخي الكبير في اذني. انزلوا من سيارة القفص العسكرية شابين. ربطوا الاول على العمود. ثم وقف امامه خمسة جنود واعدموه. بعد ان قرأ ضابط برتبة مهمة من مكبر صوتي كلمة قصيرة ، اتذكر منها كلمتي : ماء وخبزالوطن ، الذي لايستحقه هذا الخائن. وفعلوا بالثاني مثل الاول. صفق الجمهور الاول بحماس ، ثم عادوا الى البيوت لاعداد طعام الفطور تحت حراسة الجمهور الاخر.

صعدت الى سطح البيت وراقبت تل التراب. كانوا قد أخذوا الجثث والعمود الخشبي معهم . لم أفهم لم اخذوا العمود ايضا. لكم تمنيت ان يتركوا العمود الخشبي الذي لا أعرف سبب تعلقي به حتى اليوم. تبولت في زاوية السطح ، ثم راقبت دخان تنور خبز يصعد من سطوح احد المنازل. إبن قحبة من يدعي انه يكتب من اجل الحزن او الخوف في هذه الصورة الفوتوغرافية البائسة ، أنا اكتب من اجل سيدي ومولاي امير الظلام ، تنين النار الذي يغلي في معدتي ، اكتب من اجل ان لا اهدأ ، من اجل ان اضاعف سرعتي صوب المقبرة ، وليس من اجل حكمة ما ولا من اجل التاريخ ولا من اجل التسلية ولا من اجل اي غرض ادبي تعس ، لكن هل تظنون انني اكتب عن القتل او الظلم او عن مسرحية الخراب ، هل تظنون انني اكتب شهادة في سجل الاحياء والاموات ؟ من ؟ انا الذي قتلت في حروب صليبية قبل قرون ، وقطع راسي بضربة واحدة من سيف فارس شجاع. أنا اكتب في رواية ، مهمة بطلها تصفية جميع ابطال الروايات والقصص الادبية. هل تظنون انني اريد ان الطم فوق الجثة ؟ لقد ُقتلت غدا بسيارة مفخخة في بغداد ، قتلت وانا في طريقي الى السوق ، ساشتري الرز والسمك ، سيعثرون على راسي قرب كيس السمك. ُقتلت في كهف ، في العصر الحجري ، اراد احدهم ان يأكل ولدي. مساءا غرقت ، قتلني البحر ، بعد ان ودعت قريتي ، جدتي من الصومال ، وابي من تنزانيا ، سينقلب القارب ، لن اصل الى شواطئ اسبانيا ابدا. قتلت في غزوة مسلمين لبلادي ، قتلت برمح طويل وسط سهوب اسيا. قتلت في العام الماضي في يوم الاحتفال بعيد ياهانوس في غابة فنلندية ، احترقت بحفرة النار التي كنا نلعب سكارى حولها. بالطوفان ، شطبت بلدتي الصغيرة ، وقبل ان يدخل جذع شجرة مكسور في صدري ، شاهدت طفلي يهرس اسفل جدار. سقطت قذيفة من طائرة ، قتلنا جميعا في الخندق ، طائرة من الحرب العالمية الثانية تبولت فوق روؤسنا. قتلني تجار المخدرات في كولمبيا بالخطأ ، كان يريدون قتل ابن عمي. احترقت في فرن نازي ، رغم انني كنت ميتا حين حملوني الى الفرن. سيارة فتاة جميلة ، فتاة يساوي بظرها عطر الوردة ، صدمتني في الشارع ، كانت السماء تمطر فوق باريس في ذلك اليوم. اخذوا دمي مقابل دم رجل اخر في قرية افغانية. قتلت في حرب اهلية ، قتلت في ثورة. قتلت وقتلت وقتلت وساقتل. قتلت في نشرة الاخبار ، قتلت من اجل ان يدون اسمي في كتب التاريح ، قتلت من اجل ان اضيع الى الابد في زحام المقبرة.. قتلت بسبب الطموح ، قتلت من اجل انسان اخر ، قتلت بسبب الغباء ، قتلت بسبب طيبيتي ، قتلت بسرطان الرئة ، كنت اظن ان تدخين السجائر افضل من الموت بدخان الوحشة. قتلت وانا ادافع عن الشيطان ، قتلت في صفوف جيش الملاك. قتلت بسبب ، قتلت من دون سبب. لكن ابن قحبة ايضا من يطالبني بالتوقف عن القتل في الكتابة ، عن الرقص مثل مجنون دخل عرسا بالخطأ. ابن قحبة ايضا من يسعى للانخراط في صفوف مايسمونه: ادب السفلة العالمي. ابن مرحاض من لايتوقف دقيقة واحدة ، ليسألهم ماذا يعنون بهذا الادب العالمي. هل هو يشبه النيك العالمي او القتل العالمي او الخراب العالمي. ابن قحبة من لايتجرع السم من دون ان يموت. ابن خنزير ظريف من يصفق في مهرجان للشعر او حفلة اعدام. اما ابن القحبة الكبير فهو من يطالب الكتابة بان توقف القتل او توزع الخبز ، مثل اولاد القحبة الذين كانوا يطالبون اهل المعدوم بثمن رصاصات قتل اولادهم. كيف ستنتهي فورة احاسيسي هذه. مالذي كنت اريد فعله بالتحديد حين طبعت الكلمة الاولى ، وهذه ايضا خدعة ساذجة ، عدوى مملة من امراض الكتابة. في الحقيقة اعرف مالذي انوي فعله ، لكنني لااعرف بالتحديد لم انا موجود هنا ، اذكر انه كان عندي برميل من الشحم الفاسد ، وكنت انوي ان استخدمه في طلاء جدران الارحام لكي لا تقذف بالقتلة والضحايا على مدار الساعة ، وكنت افكر ، ان كان الخارج من الرحم والداخل الى القبر هو توأم جميع المواليد والوفيات ، ان كان مع هاتين الحفرتين كل هذه العدالة والنزاهة والمساواة ، لم لاتقدر الحياة هي الاخرى على النوم بسلام. لم افرك عينيّ منذ اربعة وثلاثين عاما في برميل الشحم الفاسد نفسه. لم لاتغص روحي بعظمة العذاب واستريح. من اين لي كل هذه القدرة على التنفس ومواصلة الضراط. صدقوني لو كنت املك الموهبة للكتابة ، لما كتبت هذا الهراء الذي ستكنسه الريح بعد قليل.


انتهى.


رجل عاقل : هل من المنطق ان ينتهي النص بهذه الطريقة ، واين هو العمود الفقري لهذا القرش الكوميدي الذي تريد رسمه ؟

امرأة طيبة : الكتابة هي فن الصمت ، وليست حنفية هذيان ؟

الكاتب : تبا لك من احمق ياسيدي العزيز ، نعم سيدتي معك كل الحق ايتها العاهرة ، انا الاخر كدت أن استسلم ذات مرة ، كاد أن يطلع برعم الحب في قلبي ، كنت على وشك الانتهاء من نسج راية بيضاء ، كدت أن اعتذر من الحياة وربما اصلي من اجل البشر ، كدت أن اتصدق بالكلمات على القراء كحلوى صوفية. كدت أن اجلس قبالة التلفزيون واضحك مع المسرحية. كدت أن اكتب قصيدة في الجمال وروعة العشب. لكني مازلت اخرج سكيني وامسك برقبة الفكرة. الليل طويل. ادوّن لائحة باسماء المطلوبين . عدت الى ذاتي . كدت انسى مرارة دمي ، كادت الشمس ان تغويني ، كدت ان ارتكب جريمة شرف ضد انسانيتي واكتب عن الحب ـ انا ابن قبيلة الحقد. كدت ان اكسر كأس الهذيان ـ تاجي ومملكتي وينبوع عطشي. عدت الى ساحة المعركة ، كدت ان انسى شهوة اطلاق الرصاص في الهواء :

قضيب مجذوم في فم الزمن. انهيار خرائي من قمة جبل الله فوق الانسان الحزين. رصاصة على هيئة فساء مضغوط في جبين ابي المشلول. برميل من الاطفال المسحوقين بهاون فولاذي في ضرس العشاق ( مامعنى هذا ؟ ). سحالي منقوعة ببول الشيطان ومقلية بزيت المحركات في حساء الشعراء. الف طن من البلغم مخلوط بالف طن من حيض ساحرة على لسان من يروي حكاية واقعية. ستون الف مسمار متجمر في رحم المرأة التي لاتعرف الخيانة. ومئة الف مسامر اخر في حنجرة الرجل السياسي، ومئة الف مليون اخر في طيز الكتابة. وجيش من دود المقبرة المهروس بلحم الموتى على اسنان من يحلم .


كاد البصاق ان يجف في فمي ......

عدت الى قرية اجدادي : الكوابيس


انقاذ الأفغاني







جلبنا معنا جثة أفغانية نصف عارية. سحبتها مع صادق السيد ثلاث ليال مخيفة وقاسية في غابة بدت بلا نهاية أو مخرج. نزع صادق ، قميص الأفغاني الأسود وربطت انا قدميه بأكمام القميص. كانت آخر غابة على الحدود الرومانية الهنغارية. بعد عشرة أمتار تمزق القميص. سحبناه من ذراعيه هذه المرة. كانت الثلوج تهطل بعد ان عبرنا النهر. نسيت كل هذا. ظننت أنني نائم في سجن وحدتي العسكرية من أيام الحرب. حين أفقنا فجرا شاهدنا كلاب الجيش الهنغاري تشم جثة الافغاني .

: أسمك ؟

: سالم حسين

: عمرك ؟

: ثلاثون

ثم اومأت بيدها الى ان أخلع لباسي الداخلي. البارحة أخذوا الخراء ، اليوم يفتشون الجلد. دونت ملاحظة في الأوراق التي امامها ثم حركت أصبعها من أسفل الى أعلى هذه المرة وهي تبتسم. رفعت لباسي الداخلي. بسطت يدها بأتجاه الباب من دون ان تلتفت ألي .ارتديت بقية ملابسي. دخل بعدي صادق السيد ثم شاب نيجيري طويل، أسمه جيمس. كان يرتدي شورتا صيفيا قصيرا طبعت على مؤخرته شمس ضاحكة ، مع قميص خفيف بألوان علم جامايكا ، إحتج على مرافقتنا التي لم تسمح له بالخروج لتدخين سجارة.

لم يبق سوى الباكستاني وعجوز كردي مع زوجته وأبنه. كنا مجموعة نزلاء جدد ، وصلنا هذا الصباح في ساعة مبكرة الى المستشفى برفقة شابة جميلة تدعى آنيس من محطة أستقبال اللاجئين ، هي ألبانية عينت في المحطة بعد ان أقامت فيها خمس سنوات كلاجئة ، تعلمت خلالها اللغة الهنغارية بطلاقة . في يد كل واحد منا علبة للخراء وأنبوب بلاستيكي للبول. نهض الباكستاني و فك حزام بنطاله قليلا وحشر قميصه الرياضي الأحمر، ثم أحكم اغلاق الحزام بشكل مضحك. خرج جيمس النيجيري من غرفة الطبيب منتشيا وهو يشد خيط سرواله الشمسي ، بدا وكأنه خارج للتو من غرفة عاهرة . نوهت آنيس، بأن الممرضة ستأتي بعد قليل لجمع علب الخراء وأنابيب البول، وتمنت ان تمر الأختبارات بسلام. أخبرتنا من دون مقدمات ماحدث للمجموعة التي أتت قبلنا. حدث ذلك قبل شهر. تقول، أنهم كانوا عشرة شبان صوماليين ومعهم طفل صغير. أخذ واحد من المجموعة جميع علب الخراء وملأها بنفسه. اما البقية فملأوا فقط أنابيب البول ، بالتأكيد تمكنوا في المختبر بسهولة من معرفة ان جميع العلب عبأت من خراء شاب واحد. تحجج الصومالين بعد مكاشفتهم بالأمر ، بأنهم لم يجدوا طريقة لملأ العلب، قالوا بأنه لايمكن الحصول على الخراء في المرحاض الغربي بسهولة ، فهو يغطس في الماء ويصعب التقاط عينة منه. لهذا قام أحدهم بالمهمة. تغوط على أرضية الحمام وملأ علب الجميع بسهولة ، بما فيها علبة خراء الطفل .

كنت أنا وصادق السيد قد وصلت بعد الآخرين بثلاثة ايام. اجروا معنا تحقيقا سريعا في مركز الجيش على الحدود ، وفي الصباح أرسلونا الى محطة استقبال اللاجئين في مدينة بكشجابه. لاادري الى اين أخذوا جثة الأفعاني. اخبرونا ان الشرطة ودائرة الهجرة ستحقق معنا مرة أخرى عن التفاصيل بعد الفحوصات الطبية. أدخلونا الى الحجر الصحي في محطة الاستقبال ، وهو مبنى صغير ملحق ببناية المحطة الكبيرة حيث يعيش بقية النزلاء. الهنغار يسمون الحجر الصحي كما في العراق ب ( الكرنتينة ). كانت مزدحمة وقذرة مثل زريبة خنازير. أفغان وعرب وأكراد وباكستانيون وسودانيون وبنغلادشيون وأفارقة وبعض الألبان. تستمر الفحوصات مدة شهر واحد. رعب الكرنتينة بالنسبة للنزلاء الجدد يكمن في نتائج الاختبارات الطبية فهناك من هو مسلول أو اجرب. هؤلاء يرّحلون من الكرنتينة الى مستشفى العزل في أطراف المدينة . يبقون هناك حتى يتم علاجهم. وهذا مايخشاه أغلب النزلاء الجدد. خشيتهم ليست من المرض بل من فترة العلاج التي قد تمتد الى أكثر من عام ونصف. العراقيون والايرانيون سخروا من السل والجرب . فبإعتقادهم كانا يصيبان البنغلادشيين والباكستانيين والأفغان والأفارقة فقط . بالفعل ، أظهرت نتائج الفحوصات صحة ذلك ، فأمراض العراقين او الأيرانين أوالكرد كانت تناسلية ، خاصة السيلان الذي يعالج داخل محطة الاستقبال نفسها. لكن دعونا الآن من كل هذا و لندخل الى صلب الحكاية : موت الأفغاني. لا ، أنا أكذب ، هذه التفاصيل تهمني لكني اضعت الطريق. كان علي أن اتكلم عن تفاصيل الخراء في حكاية منفردة.

عبرنا الحدود الرومانية - الهنغارية برفقة مهرب محترف. أخبرنا عند الفجر أن الضباب بدأت تزداد كثافته ، وعلينا ان نقوم بملازمة بعضنا بعض حتى نصل الى النهر ونعبره الى الأراضي الهنغارية. المهرب غير ملزم بأنتظار من يتوقف عن السير، وسنستمر فيه قبل ان ينقشع الضباب . بذلنا كل الجهد كي نلحق بخطوات المهرب. أقسمت للمحققين ان الأفغاني مات اثناء عبور النهر ، كان مريضا جدا ، غرق بسرعة من دون أن نتمكن من أنقاذه ، لكن التقارير الطبية أثبتت أنه مات مخنوقا. رويت لهم الحكاية كما حدثت في الواقع الضبابي بصدق وأمانة. كان المهرب قد أضاع الطريق ( هذا ما أخبرنا به المهرب) ، فقد أمرنا بالمبيت في الغابة . دخلنا في أكياس النوم ونحن نرتجف من شدة البرد ، يمكنكم سؤال جبميس النيجيري او الباكستاني او العجوز الكردي ، فهم عبروا قبلنا وأخبرونا بما حدث حين ألتقينا بهم في الحجر الصحي . كانت خطة دنيئة ، كان المهرب يعرف أن النهر قد أصبح على مسافة كيلو متر واحد من الغابة ، لكن القارب الذي تركه لنا أحد مساعديه من القرى الرومانية الحدودية، لم يكن يتسع إلا لستة أشخاص ، هكذا كان على المهرب أن يتخلى عن ثلاثة منا . أجزم أنه كان يعرف بمشكلة القارب مسبقا قبل ان تنطلق الرحلة من بوخارست . أنتظر المهرب بعد أن دخلنا في اكياس النوم نصف ساعة تقريبا ، ثم بدأ يتجول بين المجموعة ويرفس بقدمه بخفة كل واحد منا ، وقد أفلحت طريقته هذه ، كنا أنا وصادق والأفغاني قد غرقنا في نوم ثقيل ، اما الآخرون فكان نومهم خفيفا او أنهم لم يناموا من شدة البرد. هكذا تركونا في الغابة نياما. حين أفقنا أدركنا اننا تعرضنا للخداع ، فهذه الحكايات مشهورة في طرق التهريب غير الشرعية باتجاه اوربا . في تلك الدروب المحزنة والمخزية كان يحدث الأفظع. أخذنا نبحث عن النهر كي نعبر الى هنغاريا بأنفسنا . أخذ الله ينفخ الضباب بكثافة . بدا كأنه يفعل ذلك عن عمد. بعدها بساعات وصلنا النهر. كان البرد قد هدّ حيل الأفغاني ولم يكن يقوى على المشي ، سرت الحمى في جسمه بجنون، حملته أنا و صادق الذي احب الافغاني كثيرا. المسكين ، كان قد لازمنا واصبح أخا ورفيقا لنا منذ ان التقينا به أثناء عبور الجبال الأيرانية - التركية . طلب مني صادق أن أكون أول من يعبر ، و أختبر الأمر بنفسي ثم انادي عليهم من الجهة الاخرى واشرح لهم طريق العبور لئلا يتيهوا في الضباب . قال صادق بأنه سيساعد الافغاني بنفسه. رحت أصيح على صادق من الجهة الأخرى وانا ارتعد من شدة البرد. ثم سمعته يقفز في الماء مع الأفغاني. صحت مرشدا إياهم الطريق، بعد قليل سمعتهم يتخبطون بالماء ، صرخ صادق بأن الأفغاني بدأ يغرق ، صحت متوسلا بأن لايتخلى عنه ، كانت الضوضاء المنبعثة من تخبطهم في الماء تتصاعد بسرعة ، وفجاة هدأ كل شيئ ، كنت على وشك القفز الى الماء من جديد كي أساعدهم ، لكنني شاهدت صادق يخرج من الضباب ساحبا خلفه الأفغاني. قال : لقد غرق. لم يختف عن نظري سوى ثلاث دقائق ،حين غطست ، لكنه كان ميتا. أجهش صادق السيد بالبكاء .

مضت على هذه الحادثة ثلاث سنوات ، أنا أعمل الآن في مخيم اللجوء بدل آنيس الألبانية التي عادت الى بلدها ، أعمل مترجما لدائرة الهجرة وأصطحب نزلاء الكرنتينة الجدد الى المستشفى كل صباح. لاشيئ مثيرا في حياتي ، نفس مشاكل الخراء والبول وأعتراض بعضهم على التعري امام الطبيبة. أردت أن انسى الأهل في البلاد ، وانظم ايقاع حياتي مع الايقاع الثقيل لهذه المدينة الحدودية . أزور قبر الأفغاني بين فترة وأخرى ، حيث دفن في مقبرة المدينة القريبة من محطة استقبال اللاجئين ، كان قبره الوحيد من دون علامة الصليب. وكان زوار المقبرة يطلون عليه بسبب الفضول ، لمشاهدة الآية القرآنية المنقوشة على شاهدة قبره . أشرب في البار كل مساء ، اضاجع عجوزا تحبني كثيرا في دكان الزهور. اقرأ الصحف في الانترنيت. مرات أبكي طوال الليل. لكنني لم اجرؤ حتى الآن على زيارة السجن الذي ينزل فيه صادق السيد في العاصمة بودابست. رغم أنني افكر هذه الايام بزيارته . ليته فقط يخبرني لماذا خنق الأفغاني في النهر.

حسنا ، لاأدري ياصادق مالذي كنت تفكر به ، لكنك لم تتركه يغرق بنفسه !



هلسنكي ـ 2006

أناشيد ضد الله







جعفر المطلبي: ولد في مدينة العمارة. عام 1973: استقال من الحزب الشيوعي وانضم الى الحزب الحاكم، في العام نفسه أنجبت زوجته الولد الثاني. جعفر عازف عود محترف وملحن أناشيد وطنية مشهور. قتل في انتفاضة 1991 في مدينة كركوك.

ـــــــــــــــــــــــ


يمكنني أن أحدثك اليوم عن نهايته. هل تشاهد هذه المرأة العجوز التي تصيح بأسعار السمك: إنها أمي. نحن نبيع السمك منذ ان عدنا الى بغداد ، دعني أساعدها في افراغ صندوق السمك، ثم نذهب الى مقهى قريب ونتحدث
...........

بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية بدأ أبي يشهر إلحاده بطريقة مخجلة . سبب لنا مشاكل عديدة. ذات مساء عاد الى البيت وقميصه ملطخ بالدم. يبدو أنه نزف من أنفه على أثر لكمة من احد الاصدقاء. كانوا يلعبون الدومينو في المقهى، حين شرع أبي في إطلاق أقذر الشتائم على الله والنبي. كان يبتكرها ويلحنها اثناء اللعب، كما تعرف كان من أشهر الملحنين. صفر أبي في البدء بلحن مبتكر على الطريقة العسكرية، ثم أضاف شتيمة جديدة: مسمار في خصوة أخت الله !

كثيرون انفجروا بالضحك إثر سماعهم ما إبتكرته مخيلة أبي من شتائم، لكنهم سرعان ما يهربون منه مستغفرين ربهم. بعضهم لم يطق لقاءه في الشارع . أخبره احدهم ذات يوم ممازحا أنه يتمنى أن يدعسه بشاحنة محملة بالفولاذ، لكن الجميع كانوا يخشون صلته بالحكومة. كتب أبي في اليوم التالي تقريرا لمقر الحزب عن ابو علاء الذي لكمه، وبعدها بيومين اختفى أبو علاء. كنا نعيش في حي إسمه القادسية الثانية ، وهو عبارة عن بيوت وزعتها الحكومة على نواب الضباط في الجيش، والآخرين القادمين من مدن الجنوب والوسط، وعوائل الاكراد الذين كانوا يعملون مع السلطة. كنا العائلة الوحيدة في الحي التي تعيش بطريقة مختلفة. فكل العوائل تعيش على رواتب الجيش والحزب والأمن إلا نحن. فقد كنا نعيش على الحان أبي للاناشيد الوطنية. كان الأب أكبر منزلة من المختار وعضو الفرقة الحزبية، وكان الرئيس نفسه قد قلده أوسمة الشجاعة لأكثر من مرة على أناشيده عن الحرب. لقد ظلت عالقة في ذاكرة الشعب حتى يومنا هذا. أسمع خويه، سأختصر لك السالفة، بعد انتهاء الحرب بعام، تعرض أبي الى ما تسمونه في الجرائد بالنضوب الابداعي، لم يتمكن من وضع لحن جديد للقصائد الكثيرة التي كانت تصله من شعراء مشهورين تتغنى بعظمة الرئيس. مرت شهور، ثم مر عام، وهو عاجز عن وضع لحن جديد واحد. هل تعرف مالذي فعله خلال تلك الفترة، أخذ يكتب قصائد فسق وكفر قصيرة بنفسه، وراح يلحنها. في مساء شتوي دافئ، كنا نشاهد التلفزيون حين وصلنا صوت ابي وهو يغني لحنه الجديد عن نساء النبي وشبقهن. فجأة نط أخي الكبير. أخرج من دولاب الملابس مسدس أبي، وركب فوق صدره وهو يضع المسدس في فمه. كاد أن يقتله لولا أمي التي شقت ثوبها معرّية صدرها وهي تصرخ . تسمّر أخي للحظات وهو يحدق في ثديي أمي الضخمتين اللتين تدلتا فوق بطنها مثل حيوان أفرغت منه أحشاؤه. كانت هذه هي المرة الاولى التي نشاهد فيها صدر أمي ونحن في ذلك السن. دخلتُ الى المرحاض، وفرّ أخي من مشهد الأم الى خارج البيت. كانت أميّة، لكنها أكثر ذكاء من أبي الذي كانت تعتني به بطريقة غريبة. دللته كما لو كان ابنا. كانت القابلة المأذونة في حي القادسية و قد احبها الناس كثيرا. قرر أبي كتابة تقرير عن أخي الى مقر الحزب. لكنهم لم يستجبوا له. رائحة ابي صارت تفوح في الحي و الوسط الفني . قالوا إن جعفر المطلبي صار مجنونا. و تجنبه أصدقاؤه. سافر إلى بغداد و تقدم بطلب للاذاعة والتلفزيون، كي يعيدوا بث الأناشيد الحربية التي لحنها.. على الاقل نشيد واحد في الأسبوع. رفضوا طلبه واخبروه ان اناشيده غير مناسبة اليوم، فهم يبثون الأناشيد مرتين فقط: أثناء الاحتفال بذكرى إندلاع الحرب وذكرى توقفها. أراد أبي أن يستعيد ماضيه وشهرته بكل وسيلة. حاول مقابلة الرئيس لكنه فشل، تقدم بطلب الى دائرة السينما والمسرح لعمل فلم وثائقي عن اناشيده والحانه، لكن طلبه قوبل بالاهمال ايضا. اثناء كل هذه المحاولات كان قد أنتهى من وضع عشرة ألحان لقصائد في شتم الله والوجود، كما كانت هناك أغنية جميلة عن الخلفاء الأربعة. أدركنا انه قد جن فعلا، حين أخذ يتردد على الأستوديوهات، في محاولة منه لتسجيل أناشيد الكفر بصوته. بالطبع قوبل طلبه بالرفض القاطع، وبعضهم طرده وهدده بالقتل. اخيرا قرر ابي ان يقوم بتسجيل أناشيده على شريط في البيت. وضع جهاز التسجيل امامه وأخذ ينشد ويعزف على آلة العود. كانت نسخة صوتية رديئة بالطبع، لكنها كانت مفهومة. أسمعها إيانا عند فطور الصباح، كنا نخشى ان يعرف الناس بأمر هذا الشريط ، أردنا الحصول عليه وإتلافه بأية طريقة، لكنه لم يكن يتركه للحظة يفارق جيب معطفه، وحين ينام كان يدس الشريط في جيب عملها في الوسادة.

لا داع اليوم كي نخبيء هذه النسخة، فالآخرون بحاجة اليها، فالله تقدم الآن اكثر من اللازم، سوية مع القتلة واللصوص. قد تكون ردة فعل الشارع هستيرية. لكن دعنا نطلق رصاصة في الهواء. تفضل، أنت صحفي، ويمكنك أن تفيد وتستفيد منها. عرض علي مغني شاب أن يقوم بإعادة تسجيلها وغنائها في استوديوهات حديثة، لكني رفضت. يجب ان تبقى هذه الألحان كما سجلها ابي بنفسه كدليل على حكايته، يمكن نسخها فقط، الناس ينسون بسرعة حكايات هذا الواقع. حين ترويها لهم بعد زمن، يظنون أنها حكايات من نسج الخيال. خذ مثلا، جارنا في السوق، أبو صادق بائع البصل، حين يروي اليوم حكايته عن معركة نهر جاسم مع الايرانين، تبدو حكايته وكأنها فلم رعب هوليودي من نسج خياله.


هرب جيش الحكومة ودخلت ميليشات البيشمركة الكردية الى كركوك، استقبل أهل المدينة الانتفاضة بفرح كبير. كانت هناك فوضى عارمة ورصاص وجثث ودبكات واغان في كل مكان. لم نتمكن نحن من الهرب. كان المنتفضون قد أحرقوا بيوت كل أحياء الحكومة ومنتسبي الحزب وقتلوا ومثلوا بجثث البعثيين والشرطة والأمن. لم نتمكن من الهرب وحوصرنا في البيت. اقتحمت مجموعة من الشبان الباب المحصّن بمكتبة أبي، أخرجونا للشارع لتفيذ حكم الاعدام. كانت امي تتضرع وتتوسل اليهم، لكنها لم تشق ثوبها هذه المرة. ماذا ... أبي ... لا، لا، أبي لم يكن معنا. قبل الانتفاضة بأشهر، أصبح مجنون المدينة المعروف. كان يطوف الشوارع وهو ينشد ضد الله حاملا عوده الذي لم يبق فيه وتر واحد. كانت النار قد شبّت في بيتنا، سقطت أمي فاقدة الوعي ونحن نستند الى جدار البيت الخارجي. وصلت أم طارق جارتنا الكردية في اللحظة الأخيرة وهي تصرخ بوجه الشبان وتحدثهم بلغتهم ثم راحت تتوسل إليهم أن يطلقوا سراحنا. أخبرتهم عن كرم وطيبة أمي ومساعدتها للنساء الكرديات في إنجاب الأطفال وسهرها على النساء الحوامل؛ أخبرتهم عن خبز العباس الذي كانت توزعه امي على الجيران، وعن شجاعة أخي الكبير، وبأنه كان من أعز أصدقاء ابنها الذي استشهد مع قوات البيشمركة اثناء حملة الأنفال، وهو الذي ساعد أبنها الشهيد في الهروب من كركوك ( هنا كذبت) ؛ وبأنني ولد طيب ومسالم ، لا أهش ولا أنش، وختمت دفاعها بنبرة غاضبة: لا ذنب لهم بما كان يفعله جعفر المطلبي القواد، ثم بصقت على الأرض. دخلنا بيت أم طارق ولم نخرج منه الى ان دخلت قوات الحرس الجمهوري للمدينة وإنسحاب ميليشيات البيشمركة وهروب أغلب المنتفضين مع تلك الميلشيات.

عثرنا أخيرا على أبي من دون رأس، وهو مربوط الى جرار زراعي بحبل غليظ. كان قد سُحل لنهار كامل في المدينة، وقد مثل بجثته بطريقة لايمكنك تخيلها. كان أبي ساعة محاولة اعدامنا ، قريب من مقر الفرقة الحزيبة. حيث كانت جثث أعضاء الحزب تملأ ساحة المقر. دخل ابي المقر الفارغ ، واتجه الى غرفة الأعلام ، كان ابي يعرف تلك الغرفة جيدا. من تلك الغرفة كانت تبث أناشيده الحماسية من خلال مكبرات الصوت في سطح المقر اثناء حربنا الاولى، ومن هذه المكبرات أيضا، كان يتحدث أعضاء الحزب للجمهور حين كان يتم إعدام أحد الشبان الهاربين من الجيش أو المتهمين بمساعدة ميليشيات البيشمركة. وضع أبي الشريط في جهاز التسجيل وأخذت مكبرات الصوت تبث اناشيده ضد الله والوجود على مسامع المنتفضين. كان أبي يحضن آلة العود ويبتسم، حين دخل المنتفضون واقتادوه الى الخارج. أستميحك العذر يا صديقي ، هناك تاجر سمك سيجلب اليوم بعض شولات سمك الزوري، على أن اذهب الآن. غدا سأخبرك بسر علاقة أبي مع أم طارق الكردية.


الثلاثاء، 4 مارس 2008

جريدة عسكرية






الى قتلى الحرب العراقية الايرانية ( 1980 ـ 1988)

سنذهب الى المقبرة، إلى مشرحة الموتى. نستأذن حراس الماضي . سنخرج الميت عاريا الى الحديقة العامة. نجلسه على المصطبة، تحت شمس برتقالية ناضجة. سنحاول تثبيت رأسه. حشرة أو ذبابة تطن حوله. مع أن الذباب يطن على الأحياء والأموات بقسمة عادلة. سنتوسل اليه أن يعيد علينا الحكاية. لا حاجة لرفسه تحت خصيتيه كي يروي بصدق ونزاهة. فالأموات نزيهون في العادة، حتى الأوغاد منهم.


...........




شكرا عزيزي (الكاتب) على إبعاد الذبابة من على أنفي وإتاحة هذه الفرصة المشمسة !

أختلف معك فقط في محاولة تخويف القراء مني وأنت تصفني بالوغد. دعهم يحكمون بأنفسهم ارجوك، ولا تتحول انت الآخر الى كلب مسعور. هنئيا لك بالحياة ! فقط لا تتدخل في جوهر الحيوان الذي أنت من فصيلته.

سيدي القاضي: قبل عشرة أعوام، أي قبل ان أنهي حياتي، كنت أعمل في جريدة عسكرية. أشرف على الصفحة الثقافية التي كانت تهتم بقصص وقصائد الحرب. وكنت اعيش حياة آمنة. لديّ ابنة صغيرة وزوجة وفية تجيد الطبخ ، وقد وافقت أخيراً على لعق زبي قبل كل مضاجعة. وكنت احصل من عملي في الجريدة على العديد من المكافآت والهدايا، والتي كانت قيمتها تفوق بكثير راتبي الشهري. وبشهادة رئيس تحرير الجريدة ،أكون انا العبقري الوحيد الذي تمكن من احياء الصفحة الثقافية بمخيلة قتالية لاتكل ولاتمل. حتى انني حصلت على تكريم ورعاية خاصة من وزير الثقافة نفسه، ووعدني الوزير سرا بالتخلص من رئيس التحرير وتعييني مكانه. لم أكن عبقريا الى هذا الحد ولا حتى وغدا كما يريد أن يصفني كاتب هذه القصة. كنت رجلا مثابرا وطموحا، احلم بالوصول إلى منصب وزير الثقافة لا أكثر. لهذا كنت منكبا في تلك الايام على عملي بشرف، وكان عرق جبيني يتصبب وانا اراجع وأدقق وأصمم صفحتي الثقافية مثل خباز صبور. كلا سيدي القاضي ، لم اكن رقيبا على النصوص كما ستتخيل. فالكتاب الجنود كانوا اشد صرامة وانضباطا من أي رقيب عرفته في حياتي. كانوا يدققون في كل كلمة ويفحصون حروفها بعدسات مكبرة، فهم ليسوا حمقى الى هذا الحد ليرسلوا كلمات متباكية او جمل من العواء والصراخ. كان بعضهم يكتب من أجل أن لا يصدق أنه سيقتل وأن الحرب مجرد قصة حماسية في جريدة. والبعض الآخر كان يبحث عن بعض المنافع المادية والمعنوية. وهناك كتاب اجبروا على ذلك. وكل هذا لا يعنيني، وأنا في هذه اللحظة غير نادم ولا حتى خائف؛ فالميت سيدي القاضي لايتألم على جرائمه ولا يشتاق الى سعادته كما تعلم. وإن كنا نسمع بين فترة واخرى نقيض هذه الحقيقة فهي مجرد مبالغات شعرية دينية تافهة وشائعات مضحكة لا تمت بصلة لأوضاع الموتى البسيطة. لكنني اعترف أنني كنت أتدخل كثيرا في بناء وطرق أداء القصص والقصائد واحاول قدر المستطاع ان امد الصور المكتوبة التي كانت تصل من الجبهة بالمزيد من فحم المخيلة. فبالله عليك ما معنى ان يقول أحدهم ونحن نخوض حربا شعرية : ( لقد احسست ان قصف المدفعية كان شديدا كالمطر، لكننا لم نكن خائفين ..). شطبت وكتبت من جديد : (لقد أحسست ان نيران المدفعية، كانت كرنفالا من النجوم ، ونحن كنا نتمايل كالعشاق فوق تراب الوطن ..) هذا مثال صغير فقط عن طبيعة تدخلاتي المتواضعة.

لكن المنعطف في الحكاية سيدي القاضي، حين وصلت الى الجريدة خمس روايات، من جندي يقول أنه كتبها خلال شهر واحد. كانت كل رواية مكتوبة في دفتر سميك من تلك الدفاتر المدرسية الملونة. وعلى غلاف كل دفتر كتب في المربع المخصص للتعريف بالدفتر: الأسم والصف والمدرسة. ولم تكن الصفوف تتجاوز المرحلة الابتدائية. وكان كل دفتر يحمل اسما مختلفا. وكل رواية كانت تتحدث عن حكاية جندي بنفس الأسم المكتوب على الغلاف. الروايات كانت مكتوبة بلغة فنية عالية مدهشة، بل أجزم أن الرواية في العالم قبل هذه الروايات التي قرأت هي مجرد هلوسات وحكايات فارغة وقزمية أمام عظمة ما كتبه هذا الجندي. لم تكن الروايات تتحدث عن الحرب، فقط أبطالها كانوا جنودا مسالمين. كانت غوصا شفافا وقاسيا حول الكائنات الجنسية من وجهة نظر طفولية وشيطانية في آن واحد. كنت تقرأ عن جنود يلعبون بالمني والضحك وهم بكامل عدتهم العسكرية مع عشيقاتهم في الحدائق وعلى ضفاف الانهار. عن جنود يصنعون من افخاذ العاهرات اقواسا رخامية تتسلقها نباتات حزينة بلون الحليب. جنود يصفون السماء في جمل قصيرة شبقة وهم يلقون بروؤسهم على صدور نساء لدنات. كانت اناشيد ساحرة عن الاجساد وهي تنزّ أزهارها المائية. تحريتُ بسرعة وشغف عن الجبهة التي يقاتل فيها الجندي وعن وحدته العسكرية. عرفتُ أن الفيلق العسكري الذي كان يقاتل فيه، تعرض قبل ايام معدودة من إرسال هذه الروايات الى هجوم كاسح من قبل العدو. وقد تكبد الفيلق خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات. كان لي زميل، يعمل في تحرير صفحة الشجاعة ونياشينها في جريدتنا العسكرية، يهتف كلما شاهدني : لديك دماغ دبابة رفيقي !! تذكرت وصفه هذا ، حين أحسست أن الفكرة لمعت مكتملة في اسلاك دماغي الذهبية، وأنا أقلّب في هذه الدفاتر المعجزة. قررت أن أكتب رسالة إلى الجندي أهدده فيها، سأقول له بصرامة وصراحة، بأنه معرض للمساءلة الحزبية وربما سيحاكم عن قريب ويعدم، لأن رواياته كانت تنحرف عن عمد وبطريقة واضحة عن نهج الحزب وحربه العادلة. وكنت أعوّل على رعب الجنود الازلي المتعارف عليه، لتركه يتخلى عن هذه الراويات، أو أنه سيعتذر لي ويتوسل بمرارة أن أتلف ما كتبه، وأن أسامحه على فعلته الشنيعة هذه والتي لن يكررها مرة اخرى. عندها فقط، سأعرف مالذي افعله بهذه الروايات الانسانية الشاهقة. لا اظن ان روائيا كبيرا كان يحلم بأكثر من خمس روايات على هذه القدرة العالية من الأبتكار في المزج بين لغة الحلم والواقع، للوصول إلى الجنس العاشر من اللغة؛ وهو الجنس الذي بنيت منه النار، ثم من النار بنيت الشياطين.

لم تكن السماء بعيدة؛ لقد وقفت الى جانبي بسرعة خاطفة. تلقيت بعد اسبوع من رسالتي إلى الجندي، برقية من فيلقه العسكري تقول أن الجندي قتل في الهجوم الأخير ولم يخرج من فصيله العسكري شخص واحد على قيد الحياة. لقد كدت أن أبكي من فرط السعادة ومن هبات القدر السخية هذه، وأنا اكرر قراءة اسم الجندي المقتول بنشوة لا توصف .

سيدي القاضي. بعد خمسة شهور من نشر الرواية الاولى بأسمي( بعد ان أبتكرت عنوانا مميزا لها). كنت اجوب بلدان العالم من اجل تقديم روايتي الجديدة في حلقات دراسية، قدمني من خلالها اكبر مشاهير النقاد والمفكرين. وكتبت عني أكبر الصحف والمجلات الادبية العالمية. حتى انني لم اجد وقتا كافيا لإجراء المقابلات التلفزيونية والاذاعية. اما نقاد البلاد فقد كتبوا دراسات طويلة عن حربنا العادلة التي بإمكانها أن تلهم الإنسان كل هذا العطاء والحب والشعر. ولقد كتبت رسائل ماجستير ودكتوراه عديدة في جامعات البلاد ، اعتمد فيها الباحثون على نبش كل الدلالات الشعرية والانسانية في روايتي وتحدثوا عن التناغمات بين الرصاص والمني، بين صوت الطائرات واهتزاز السرير، بين القبلة والشظية، وبين رائحة البارود ورائحة فرج المرأة؛ رغم أن الرواية لم تتحدث عن الحرب لا من بعيد ولا من قريب. وبعد عودتي الى البلاد سُلّمت في احتفال باذخ كرسي وزير الثقافة نفسه دون أي مشقة. لم اكن مستعجلا في نشر الروايات الاربع المتبقية. فلقد كان هنالك المزيد مما يمكن ان تدره الرواية الاولى . ابدلت زوجتي ومسكني وملابسي وسيارتي، بحاجيات جديدة من التي كنت اشتهي. يمكنني القول انني سجدت للحرب ورفعت يدي بالشكر الى السماء على هذه النعم والهبات التي لا تقدر بثمن. وكنت واثقا من ان جائزة ( نوبل) للآداب ستكون هنا على مكتبي في الوزارة بعد الرواية الخامسة. كانت السعادة قد فتحت ابوابها مثلما يقولون. الى أن وصلت ذات يوم على عنواني في الوزراة، ثلاثة طرود كبيرة من الجبهة. كانت تحتوي على عشرين رواية مرسلة من نفس الجندي وبنفس الطريقة. دفاتر مدرسية وأسماء جنود في المرحلة الابتدائية، وقصص حب ومني. شعرت للوهلة الاولى بإرباك هائل، ثم تحول الأرباك الى فزع جليدي. حملت الروايات على عجل وطلبت من مسوؤل مخازن الوزارة ان يعطيني مفاتيح احدى المخازن. اخفيتها بسرية تامة، وأجريت اتصالات عديدة ومكثفة للبحث عن الجندي. كانت جميع البرقيات تصل الى مكتبي في الوزراة مباشرة، وكانت جميعها تؤكد مقتل الجندي. كانت أياماً مرعبة. في اليوم التالي وصلت طرود اخرى بروايات تضاعف عددها هذه المرة ومن نفس الجندي وبنفس الطريقة. حملت الروايات من جديد الى مخزن الوزارة ووضعت اقفالا اضافية على باب المخزن. لقد مرت شهور قاسية سيدي القاضي، وانا موزع بين اخفاء الروايات التي ظلت تتدفق بطريقة عجيبة ، وبين البحث عن الجندي الذي لم يكن له أثر على طول الجبهة وعرضها. في هذه الفترة كانت الرواية الثانية قد طبعت ونشرت. تلقيت اتصالا هاتفيا من الرئيس ومن وزير الدفاع ومن مسؤليين في الدولة يمتدحون اخلاصي وعبقريتي. وأخذت الدعوات تنهمر على الوزارة من خارج البلاد. لكنني رفضتها جميعا هذه المرة وتحججت بأن البلاد اغلى واهم من كل جوائز ومؤتمرات الدنيا، فالبلاد بحاجة الى كل ابنائها الأبرار في مثل هذه الظروف العصيبة. في الحقيقة كنت أريد ان اجد حلا للروايات التي ظلت تنهمر كل صباح بأعداد هائلة مثل عاصفة من الجراد: اليوم مئة رواية. غدا مئتان، وهكذا ...

سيدي القاضي. كدت أن اخسر دماغي الدبابة. أخيراً حصلت على عنوان بيت الجندي. ذهبت لزيارة عائلته للتأكد من مقتله. اخبرتني أمه انها لم تكن تصدق انه كان ميتا. لم يكن هناك سوى ثقب صغير في جبهته. كانت رصاصة قناص. اخذت عنوان قبره من زوجته وتركت لهم مبلغا من المال. اكتظت مخازن الوزارة الاخرى بالدفاتر. كيف سأشرح للحزب والحكومة أنني كتبت كلّ هذه الروايات؛ ولِمَ اكتبها في دفاتر مدرسية ، ولم أسماء الجنود وهم في مراحل الدراسة الابتدائية، ولماذا اخزنها بهذه الطريقة ؟ كانت هناك عشرات الاسئلة التي لم يكن لواحد منها جواب منطقيّ. اشتريت مخازن قديمة للطحين في أطراف العاصمة، تحسبا لتدفق المزيد من الروايات . دفعت مبالغ هائلة لثلاثة عمال في الوزارة ليعينونني على نبش قبر الجندي. كان هناك بجثته المتعفنة مثقوب الجبين. حركت جثته اكثر من مرة للتأكد من موته. همست في اذنه. ثم زعقت بصوت عال وشتمته، وتحدّيته إن تمكن من فتح فمه او تحريك أصغر أصابع يده. لكنه كان ميتا بما فيه الكفاية. خرجت دودة من رقبته وهي تطارد دودة اخرى ، ثم غاصتا من جديد في مكان اخر قرب الكتف. سيدي القاضي. قد لا تصدق هذه الحكاية. لكنني اقسم لك بجبروتك، أن مخازن الطحين والوزارة اكتظت خلال عام واحد بروايات الجندي. بالطبع لم يتسن لي قراءة جميع الروايات. لكنني كنت استل من كل مجموعة عينة واحدة. اقسم لك انها لم تكن تتضاعف عددا فحسب، بل كانت تزداد تألقا وابداعا. لكنني كنت ارتجف واشعر ان نهايتي ستكون قريبة ان لم يتوقف طوفان الروايات هذا.. بالتاكيد لم اترك طريقة ممكنة وغير ممكنة للتحري والبحث. تحريت عن العناوين التي كانت تصل منها الطرود. كانت ترسل بنفس اسم الجندي من اماكن مختلفة من الجبهة. لكن لم يكن له اثر. مع ذلك ، لم يكن بوسعي ان اتمادى في السؤال عن الطرود كيلا يُفتضح أمري.

عدت إلى المقبرة وأحرقت جثة الجندي. طلقت زوجتي الثانية ، وتركت عملي بعد أن أعانني طبيب نفسي في تقديم تقرير يثبت تدهور صحتي . جمعت كل دفاتر الروايات من مخازن وزارة الثقافة ومخازن الطحين القديمة ، واشتريت ارضا زراعية معزولة، وشيدت فيها محرقة خاصة ومخزناً كبيراً وغرفة ومرحاض، وأحطتها بسور عال. كنت متأكداً من أن الروايات ستواصل تدفقها على عنواني الجديد هذا. لكنني كنت مستعدا لها هذه المرة . ومثلما توقعت، مع صباح اليوم الاول في المزرعة، كنت أعمل بجد ونشاط ليل نهار في حرق حكايات الجنود وأسمائهم في الدفاتر المدرسية الملونة، على أمل أن تنتهي الحرب وينتهي هذا الجنون من اوراق المني الخاكي.. توقفت الحرب سيدي القاضي بعد سنوات طويلة ومرعبة. لكن حربا جديدة أندلعت. لم يتبقى امامي من خيار سوى نار المحرقة ، وانت الرحيم الغفور !!

سيدي القاضي ...

والآن وقبل اعادتي لمشرحة الموتى.اعرف أنك قدير وحكيم وعليم ومتكبر. لكن هل كنت ايضا تعمل في جريدة عسكرية . لماذا لديك محرقة وبشر روايات .